يظل الأزهر منبع العلم والأدب والفن؛ فعلى مدى ألف عام أو يزيد تخرج فيه العلماء والأدباء والشعراء والروائيون والفنانون في مجال الكلمة والصورة والأداء، تاريخه أو عطاؤه يدحض مقولات الناشزين عن طاعة الله تعالى، الموالين للغرب وجنوده، كان أبناؤه وقود ثورة عام 1919م، وشعراؤه طليعة الأمة في مواقف الجهاد والكفاح، وأدباؤه معبرين عن هموم الشعوب وتطلعاتها؛ تجد فيهم العالم القدوة، والأديب النحرير، والروائي الفائق، والمسرحي الموهوب، والصحفي الذي لا يشق له غبار، والخطاط المتميز، والرسام المتأنق، وغير هؤلاء ممن شاركوا في صنع الحياة والمجتمع.
أذكر في مطلع العمر أن بعض زملائنا الأزهريين الموهوبين في الشعر والرواية، ومعهم بعض الأساتذة، كانوا يقومون بنشر دواوينهم ورواياتهم على حسابهم الخاص، قبل أن تكون هناك مؤسسات رسمية (تكايا) تفتح على مصاريعها للشيوعيين وخصوم الإسلام وحدهم، وكان الطلاب والأساتذة يرسلون مندوبيهم ليمروا على الفصول، وفي أيديهم دفاتر إيصالات، مدوّن فيها اسم الكتاب ومؤلفه وثمنه، وهناك مكان خال يسجل فيه اسم راغب اقتناء الكتاب وفصله وسنته الدراسية، وعادة كان يتم توزيع كل إيصالات الدفاتر أو معظمها، وحصيلة الدفاتر توفر قيمة الطباعة والتجليد، وما يتبقى يذهب للمؤلف، ويصدر الكتاب الذي يوزع على من دفعوا أولاً، وفيه تقريظ وتقديم من أستاذ كبير قد يكون شيخ المعهد أو وكيله أو مراقبه، أو أستاذاً مشهوداً له بالموهبة الأدبية.
وهكذا يبدو الإنتاج الأدبي مواكباً للتحصيل العلمي الحقيقي الذي يبقى على مر السنين، ومن خلال هذا النشر يستمر عادة الأديب الأزهري في نموه الأدبي، فيكون شاعراً كبيراً، أو روائياً ناضجاً، أو كاتباً لامعاً، أو داعية عظيماً.
وأظن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي (1926 – 2022م)، رحمه الله تعالى، كان من أبناء هذه المرحلة الذهبية في تاريخ الأزهر التي حفظت الفنون الأدبية واللغة العربية، فضلاً عن القيم الإسلامية.
الإسلام والفن
وفي وقت مبكر من حياته الفكرية والأدبية، أصدر كتاباً صغيراً نسبياً بعنوان «الإسلام والفن»، طبع أكثر من مرة، وفيه عرض للفنون بأنواعها المختلفة المسموع منها والمشاهد والمقروء بوصف ذلك من ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، وأبرز حكم الإسلام في هذه الفنون، وكثير منها أحياه الإسلام، وميّز حضارته عن الحضارات الأخرى، مثل فنون الخط والزخرفة والنقوش في المساجد والمنازل والقصور والسيوف والأدوات الاستعمالية وغيرها، فضلاً عن الفنون الأدبية التي نبغ فيها العرب من قديم وأضافوا إليها ما تعلموه من الأمم الأخرى، وجاء القرآن الكريم ليمثل قمة الفن الأدبي المعجز.
ولا ريب أن الفن كالعلم يمكن أن يستخدم في الخير والبناء، أو في الشر والهدم، وهنا خطورة تأثيره، ولأنه وسيلة إلى مقصد فحكمه حكم مقصده، فإن استخدم في الحلال فهو حلال، وإن استخدم في الحرام فهو حرام.
يؤكد كتاب «الإسلام والفن» وعي القرضاوي بأهمية الكلمة ودورها في بناء المجتمع أو هدمه؛ ولذا ارتبطت حياته الأدبية بالكلمة الطيبة التي تبني ولا تهدم، وتضيف الجمال، ولا تنشر القبح؛ فكان منذ مطلع حياته وهو طالب يتعامل مع الكلمة الطيبة وهو يخطب وهو يؤلف وهو يسرد وهو ينظم، ووظّفها في الأحداث التي عاشها، والأفكار التي آمن بها، وساعده على ذلك امتلاك أدوات التعبير التي هيأها له الأزهر منذ بداية نشأته؛ اللغة نحواً وصرفاً، والبلاغة تركيباً وتصويراً، والثقافة استيعاباً واهتماماً.
وقد امتلك القرضاوي أسلوباً بسيطاً سهلاً متدفقاً، يفهمه من يتابعونه على المستويات الثقافية كافة، ولعل ذلك يرجع إلى انغماسه في الحياة العامة للناس، وقربه من واقعهم ومشكلاتهم، ومخاطبته في معظم الحالات للعامة من عمال وفلاحين وحرفيين وبسطاء، فقد كان يصعد المنبر، ويخاطب العمال الذين يصلون وراءه الجمعة في مسجد آل طه بالقرب من شركة المحلة للغزل والنسيج، وكانت تضم يومئذ قرابة مائتي ألف عامل في وردياتها الثلاث، انخفضت في أيامنا إلى اثني عشر ألفاً.
السيرة الذاتية
ولعل أبرز أدبيات القرضاوي ما يتعلق بالسرد، أو القص أو الحكي، فقد كتب ما يسمى في التصنيف الأدبي «السيرة الذاتية»، وأظنها أضخم سيرة لواحد من الإسلاميين سجلها فيما يزيد على خمسمائة وألفي صفحة، تحت عنوان «ابن القرية والكتَّاب.. ملامح سيرة ومسيرة»، وصدرت عن دار الشروق بالقاهرة، عقب نشرها صحفياً في جريدة «آفاق عربية» المحتجبة.
وفي السيرة رصد تفصيلي لحياة كاتبها منذ خروجه إلى الدنيا حتى لحظة كتابتها قبل نحو خمس وثلاثين سنة، وتميز هذا الرصد بالسعة والشمول لدقائق الحياة والأحداث، وصدق في التناول بذكر الإيجابيات والسلبيات، ويمكن للقارئ أن يجد في السيرة تفسيراً لكثير من الواقعات التي تعلقت بالأمة أو الحركة الإسلامية أو المؤسسات المختلفة، وأحوال الصحافة والثقافة والفكر والأدب في العصرين الملكي والجمهوري، وطبيعة الحياة في الريف والمدن في تلك المرحلة، فضلاً عن التعرف على شخصيات ورواد وقادة ومسؤولين من خلال سلوكهم وأفكارهم ومواقفهم، وتثبت السيرة أن كاتبها يتمتع بذاكرة قوية، حين يتذكر التفاصيل الدقيقة أو بعض الأقوال أو أبيات الشعر التي نظمها وضاعت أصولها في تراكم الأحداث والانشغالات الكثيرة.
ولعل القراء يشعرون بشيء من المفاجأة حين يعلمون أن الشيخ القرضاوي كان كاتباً مسرحياً، ففي شبابه كتب مسرحية بعنوان «يوسف الصديق»، لم أعثر عليها، وإن صدّرها بأبيات من شعره تعبر عن مضمونها، ولكن المسرحية التي كتبها في المعتقل عام 1949م كانت مسرحية «عالِم وطاغية» مثّلها المعتقلون بعد الإفراج عنه، وضاع أصلها الذي كتبه في كراسة، فأعاد كتابتها مرة أخرى، وصدرت مطبوعة، والمسرحية تتناول موقف التابعي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه واستشهاده على يد الحجاج الثقفي الذي اشتهر بالطغيان والظلم واستحلال دماء الأبرياء، ويشير القرضاوي إلى أنه في سنة 1949م، كان واحداً من الطلاب الذين اختطفتهم «كلاب الصيد» وألقت بهم في بطون المعتقلات ما بين «هايكستب» و«جبل الطور» من أراضي مصر، «وما نقموا منا إلا أننا ندعو إلى الإسلام الصحيح؛ ديناً ودولةً، عبادةً وقيادةً، صلاةً وجهاداً، مصحفاً وسيفاً».
ويقول: «وفي معتقل «هايكستب» في الصحراء كنت أقرأ في كتب الأدب والتاريخ، فكان مما راقني وأثر في نفسي موقف سعيد بن جبير العالم الفقيه الشجاع، من الطاغية المتجبر الحجاج بن يوسف، وكان لي شغف بالأدب المسرحي حينذاك، حتى إنني ألَّفت -وأنا طالب بالصف الأول الثانوي- مسرحية شعرية، عنوانها «يوسف الصديق»، ولهذا رأيت قصة سعيد مع الحجاج صالحة لأن تكون مسرحية ذات هدف ورسالة، وخاصة أننا كنا نصارع طغياناً كطغيان الحجاج، فما أحوجنا إلى مواقف كموقف سعيد! وكتبت المسرحية، ومثِّلت في معتقل الطور.. وضاعت أخيراً.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر المأساة، ويتجدد الطغيان والاضطهاد لحملة الدعوة الإسلامية، ولكن بصورةٍ أعنف وأقسى، وأشد ضراوةً ووحشيةً، وتبرز مواقف كمواقف سعيد في مواجهة طغيان أخبث وأعتى وأشد كفراً من طغيان الحجاج.
ومن هنا –يقول القرضاوي- وجدت الدافع الذي دفعني إلى كتابتها بالأمس لا يزال قائماً اليوم، بل هو أقوى، وبدأت أكتبها من جديدٍ، مُستلهماً تاريخ تلك الحقبة الغنية بالبطولات والمواقف الرائعة إلى جوار ما حفلتُ به من مظالم، وما طفحت به من تجبر وطغيان، ومُستهدياً بشخصية سعيد بن جبير، وما عُرف به من علم وإيمانٍ وشجاعةٍ وثباتٍ، سجَّلتْها لنا كتب الأدب والتاريخ والرجال، ومضى سعيد بن جبير مثلاً في تاريخ الإسلام للعلماء المجاهدين، والدعاة الصادقين: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب:39)».
الخطيب المفوّه
ولعل الخطبة هي الفن الأقوى في أدبيات القرضاوي بحكم إمامته للناس في الصلاة، وخطبة الجمعة أسبوعياً، فضلاً عن خطابته في مسجد المتولي بقريته صفط تراب وهو ابن السابعة عشرة، فوجد فيها الناس شيئاً متفرداً مختلفاً عن غيره، فأعجبوا به وتتبعوه وأثنوا عليه، كما كان وهو طالب -فيما يشبه اتحاد الطلاب في أيامنا- خطيباً مفوهاً، حيث اختاره الطلاب زعيماً لهم يتحدث باسمهم في المناسبات المختلفة، ثم قيامه بالخطابة في معترك الدعوة والحركة، ولأنه أديب بالدرجة الأولى فقد جعل من خطبه، خاصة في يوم الجمعة، درساً تربوياً متماسكاً ينهض على مفاهيم صحيحة من القرآن الكريم والسُّنة، ويغذيها بمحفوظاته الشعرية والنثرية والسرديات التي تقرب الناس من الفكرة، ويستميل القلوب إليها، ويبعد عنها الخرافات والإسرائيليات والأحاديث المنكرة، وكان حريصاً أن يركز الخطبة على ميدان واحد ممتد في خطب متعددة حتى يفهمه المصلون فهماً جيداً، سواء في الفقه أو العبادات أو المعاملات.
وكانت خطبته تمتد لوقت غير قصير، ويربط الخطبة الثانية في خطبة الجمعة بالخطبة الأولى، فلا يتشتت المتلقي بين موضوعات متعددة لا يفيد منها كثيراً، بيد أن جمهوره كان يذهب إليه عقب الصلاة بدافع الرغبة في سماعه والتعلم منه والبقاء حتى يغادر المسجد، وكنت أود أن أقدم بعض النماذج هنا لولا ضيق المساحة، ولكن القارئ يستطيع أن يعود إلى سبعة مجلدات تضم خطب الشيخ القرضاوي جمعها الأستاذ خالد خليفة السعد (من البحرين) ونشرها بعد أن خرّج معظم أحاديثها، وراجعها الشيخ مستكملاً فجوات التسجيل، ونواقص التخريج.
تضم خطب هذه المجلدات معظم ما ألقاه الشيخ القرضاوي في مساجد الدوحة، وأماكن أخرى، وبرامج «التلفزيون القطري»، و«الجزيرة»، وغيرها.
إنها تراث مهمّ للدعاة والخطباء الذين يعنيهم نقل الناس من حال إلى حال.
الأغنية المفضلة
أما الشعر فقد كان أغنيته المفضلة في المناسبات المختلفة والمواقف الصعبة ولحظات البهجة والسرور، وتأمل عنوان ديوانه الذي جمعه حسني أدهم جرار «نفحات ولفحات»، ويقوم على التضاد أو المفارقة، فالحياة ليست سارة دائماً، ولا مؤلمة دائماً، فيها هذا وذاك، وهو ما جعل شعره صدى حقيقياً لهذا العنوان اللافت، وضرورة تغلبه في كل الأحوال، حيث قال عنه:
أريد له هجراً فيغلبني حبي وأنوي ولكن لا يطاوعني قلبي
وكيف أطيق الصبر عنه وإنما أرى الشعر للوجدان كالماء للعشب
فكم شدّ من عزم وبصّر من عمى وأيقظ من نوم، وذلل من صعب
وفي شعره يحرص القرضاوي على الصياغة الموروثة وزناً وقافية وعموداً إلى حد كبير، مع لغة بسيطة وسهلة، قليلة الصور بسبب المباشرة التي تعبر عن الأحاسيس والمشاعر في لحظة فيضانها، ولعل المقطوعة التالية تمثل حالة من الفيض ضد الطغيان وجرائمه:
قل للطغاة الحاكمين بأمـــرهم إمهال ربي ليس بالإهمــال
إن كان يومكمُ صحت أجـواؤه فمآلكم والله شر مـــــآل
سترون من غضب السنوات العلا حتمـاً، ويؤذن ظلمكم بزوال
وتزلزل الأرض التي دانت لكــم يوماً، وما أعتاه من زلـزال!
البغي في الدنيا قصير عمـــره وإن احتمى بالجند والأمـوال
يا جند فرعون الذين تميـــزوا ببذيء أقوال، وسوء فعــال
لا تحسبوا التعذيب يخمد جذوتي ما ازددت غير تمسك بحبالي
لقد كان القرضاوي أديباً بحق، وأعطاه الأدب دفعة قوية إلى الأمام في التعبير باللسان والقلم جميعاً عن أفكاره وقيم الإسلام، وأظن أن الأدب ضرورة لكل عامل في مجال الدعوة والحركة، ومعظم الناجحين في هذا المجال كان الأدب زادهم ووسيلتهم في الوصول إلى الناس، ولعل سرّ الشكوى المتجددة من بعض الخطباء والوعاظ والمتحدثين في قضايا الإسلام وحركته أنهم يفتقرون إلى الجانب الأدبي، حيث يمثل وقوداً ضرورياً لدفع حركة الدعوة والتعبير عنها.
ولعل لبعض الباحثين في الدراسات العليا يتخذ من هذه الكلمة وسيلة لدراسة القرضاوي أديباً، أو يتناول جزئيات هذه الأدبية باستفاضة، ليفيد منها الدعاة الجدد والوعاظ المنتظرون.