كانت حياة الشيخ العلاَّمة يوسف القرضاوي مثالاً حياً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله»؛ حيث عاش، رحمه الله، حياة طويلة ناهزت المائة عام، قضاها –والله حسيبه- في طاعة الله عز وجل نشراً للعلم، وبثاً للوعي، ومحاربة للزيف، ودفاعاً عن الحرمات، ودحضاً للشبهات، وترسيخاً للأخلاق، وتمتيناً لعرى الدين، باذلاً في ذلك نفسه ووقته وجهده وماله وفكره وعرضه، غير هيّاب ولا وَجِل ولا متردد.
وقد كتب عنه الناس كثيراً في حياته ومن بعد وفاته، وما أحسب كتابتي عنه تزيد عما قاله الناس وما يعرفه عامتهم، إلا أنني أتعبد الله عز وجل بذلك نشراً لمناقبه، وإذاعة لمآثره، وتنويهاً بفضائله، في زمان عمد فيه أهل السوء من حكام الجور ودعاة الفسق ومرضى القلوب إلى هدم القدوات أهل العلم والفضل؛ سعياً منهم لإبطال الحق وتسويد من لا يستحق، حين يتحدث الرويبضة ويتعالم الجاهل ويتفاصح العييّ، ويُمدَح أناس بما ليس فيهم، ويُلتمس للبرآء العيب ويُرمى الكريم السليم العفيف الحليم بضدِّ ما عُرف عنه من خلال الكمال وخصال البر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد صدق نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصَدَّق فيها الكاذب ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين».
وهنا أسرد جملة من الحقائق التي يقر بها المخالف قبل الموافق:
أولها: أن الشيخ، رحمه الله، آتاه الله في العلم بسطة، وفي الأفق سعة، وفي اللسان طلاقة، وفي القلم رشاقة، وفي الأسلوب سلاسة، وفي الفكر متانة، فكان الخطيب المصقع والشاعر المفوَّه والكاتب المبدع، وهي صفات قلَّ أن تتوافر في رجل واحد؛ فإذا سمعت الشيخ خطيباً أسَرَك أسلوبه، وإن قرأت كتبه ومقالاته سرَّتك أفكاره، وحين ينشد الشعر ظننته فارس مضماره، فقد كان نسيج وحده وفريد دهره في الجمع بين هذه المواهب كلها (وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247)، وحقيق بنا اليوم أن نستحضر قول ابن عباس رضي الله عنه حين فرغ من دفن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «دفن اليوم علم كثير».
ثانيها: لم يشغل نفسه بمعارك مع أهل القبلة، بل كان داعية للاجتماع والوحدة؛ ولم يعنِّ قلمه بتتبع ما قال فلان وفلان؛ ولا الرد على من خالفه في مسألة أو مسائل؛ بل كان آخذاً بالعفو، آمراً بالعرف، معرضاً عن الجاهلين، وحين قيل له: إن فلاناً قال فيك كذا وكذا؛ كان جوابه: «إن معركتي ليست مع هؤلاء، بل معركتي مع خصوم الإسلام»! وما أبدعه جواباً من عالم عامل عرف هدفه فسلك سبيله ولم يشغل نفسه بِبُنَّيات الطريق.
ثالثها: الشيخ، رحمه الله تعالى، كان رجاعاً إلى الحق متى ما تبيَّن له؛ لا يستنكف من ذلك ولا يرى فيه غمطاً لمكانة أو تقليلاً من قيمة، بل يعلن ذلك على الملأ؛ فقد طفق زماناً يدعو للتقارب مع بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام، متحمّلاً في ذلك نقداً مريراً وأسئلة متتابعة، فلما بدا له أن ذلك التقريب المنشود «كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء» لم يبالِ بأن يعلن البراءة منه، والرجوع عنه، وقد فاض به الكيل حين أدرك يقيناً أن القوم مخاتلون لا همَّ لهم إلا نشر باطلهم وترويج مذهبهم، وأنهم يتخذونه وأمثاله من الموثوقين ستاراً وحظاراً يتقون به ما يعلمه الراسخون من فساد حالهم وخبث طويتهم؛ فنطق بتلك الكلمات، مبيِّناً أنه طالما ناصحهم سراً وطلب منهم الكف عما يباعدهم عن الحق -من سب الصحابة والترضي على المجوسي- قاتل عمر رضي الله عنه ومحاولة نشر مذهبهم الباطل في ربوع أهل السُّنة، وما ذاك إلا لأنه من أهل العلم الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن يبيِّنوه للناس ولا يكتمونه.
رابعها: التواضع والوفاء سمة بارزة في خلق الشيخ، رحمه الله؛ نلحظ ذلك في حواراته ومراجعاته، فلما أفتى الشيخ ابن باز، رحمه الله، عقيب «اتفاقية أوسلو» بجواز ذلك، رد عليه الشيخ القرضاوي في أدب جم وخلق عال يليق بأهل العلم والفضل، وتتابعت الردود بينهما، ولما توفي الشيخ ابن باز خفَّ الشيخ القرضاوي مسرعاً لحضور جنازته والعزاء فيه ضارباً أروع الأمثلة لأخلاق العلماء، وترى ذلك جلياً في نعيه لشيوخه وزملائه حين يموت أحدهم، وقلَّ أن تجد حلقة من حلقات برنامجه الذي كان ذائع الصيت «الشريعة والحياة» إلا وفيها شيء من ذلك.
خامسها: الشجاعة الأدبية جعلت من الشيخ قدوة للمنصفين، حيث كان يطرح الرأي الذي يقتنع به ولا يبالي بالثمن الذي يدفعه في سبيل ذلك؛ تلحظ هذا الخلق الكريم في كتبه حين يوازن بين الأقوال ويرجح في نَفَس فقيه وورع عالم نحرير، وحين كان إخواننا المرابطون في فلسطين لا يملكون إلا أجسادهم فأثخنوا في العدو قتلاً في تلك العمليات الاستشهادية –بداية التسعينيات من القرن الماضي- جهر، رحمه الله، بجوازها مدللاً ومعللاً، مخالفاً ما كان يفتي به بعض أفاضل أهل العلم من أنها عمليات انتحارية غير جائزة، وحين حكم البعض ببدعية المظاهرات –وذلك قبل «الربيع العربي»– كان جوابه بأنها ليست سُنة ولا بدعة، بل هي عادة ليس إلا، والأصل في العادات الإباحة، وقد دفع ثمن تلك الفتاوى حيث مُنع من دخول بلاد كثيرة ووُصم بأنه داعية الإرهاب؛ لكنه لما كان يصدر في فتواه عن علم راسخ لم يبالِ بتلك الحملات، ولم يتأثر بهاتيك الترهات.
سادسها: التجرد للحق ظاهر في حياة الشيخ؛ فلم يكن طالباً رضا ذي سلطان، ولا ساعياً لتملق جمهرة العوام؛ بل كان يعمد إلى الجهر برأيه ولو خالف هوى السواد الأعظم من الناس، انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين وطفق خلال سني حياته يدافع عنها وينشر فضائل قادتها، ولم يمنعه ذلك من أن يكون انتماؤه الأعظم إلى أمة الإسلام، فكان داعية خير ورسول سلام، يسعى في التوفيق بين المسلمين والصلح بين المختلفين، وكان حماسه لكل مشروع إسلامي يخدم أمة الإسلام، لا يبالي عمن صدر.
سابعها: كانت حياته كتاباً مفتوحاً يعرضه للناس، فدوَّن سيرته ومسيرته مستعرضاً تفاصيلها في أجزاء أربعة، مبيناً الأطوار العلمية والفكرية والاجتماعية التي مر بها، ذاكراً تفاصيل زواجه وأسفاره ومراحل دراسته وفترة سجنه، وذلك كله في أسلوب أخاذ وأدب رفيع.
وبعد، فلا بد من توجيه كلمة لأناس جهدوا في محاولة تغطية الشمس وحجب ضيائها أقول لهم: ما تنقمون من هذا الإمام العلم؟ أليس هو من وقف في وجه أهل العلمنة والإلحاد؟ أليس هو من رقم الكتب الكثيرة في تفنيد باطلهم والرد على شبههم؟ أليس هو من ذرع أرض الله مشرقاً ومغرباً يدعو إلى الله ويجلِّي حقائق الإسلام ويثبِّت أهله عليه؟ من منا لم ينتفع بكتاباته وأبحاثه؟ ومن منا لم يراجع ما دوَّنه هذا المحقق المدقق والبحر الزخار حين أراد تناول قضية شرعية محدثة؟
إننا جميعاً –طلبة العلم- مدينون بالفضل لهذا الشيخ الجليل والإمام العلم الذي سلخ من عمره نحو مائة سنة مجاهداً بلسانه وقلمه، يدعو إلى الله على بصيرة ويرد عن دين الله تعالى سهام أعدائه وشبهات المفتونين من أبنائه، وقد تعلمنا منه عفة اللسان وسلامة الصدر وسداد القول وإحسان الظن بالمسلمين، وما كانت شدته، رحمه الله، إلا في وجه الملاحدة والعلمانيين ودعاة الفتنة وأهل الزيغ.
اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين.