عرفته منذ أربعة عقود أو اكثر، حين عملت في المنطقة التي ينتسب إليها، فقدرت دوره الإنساني والاجتماعي والثقافي في مرحلة مهمة من مراحل بلاده ومنطقته. رأيته معلمًا نشيطًا يأخذ بيد أبنائه الطلاب، ويشجعهم، ويربيهم على العمل والجد والاجتهاد والإخلاص فضلًا عن الإيمان، ويسهم في حل المشكلات وتقديم الخدمات في البيئة التي ولد بها وينتمي إليها بقدر ما يستطيع، ثم شاهدته يقوم بدور فاعل في خدمة الثقافة والأدب عن طريق النادي الأدبي، والملتقيات الثقافية في المدارس واللقاءات الأدبية والثقافية داخل الدائرة التي يتحرك فيها..
إنه صديقي الأديب الشاعر المعلم “حجاب الحازمي”(1367ه_= 1946م)، من بلدة ضمد التي تقع بمنطقة جازان(جيزان) في جنوب بلاد الحرمين الشريفين، وهي المنطقة التي كان يطلق عليها قديمًا ” المخلاف السليماني”، وقد كان الرجل وفيا لها يحمل آمالها وهمومها، ولم يغادرها إلا طلبا للعلم، أو مشاركة في نشاط يخدم الثقافة أو المجتمع أو البلاد بصفة عامة.
وبعد عمر امتد لأكثر من خمسة وسبعين عامًا- أمد الله في عمره- سجل سيرته الذاتية في مجلد ضخم بعنوان: (من مشاوير الحياة: سيرة إنسان ومسيرة مجتمع)، صدر عن شركة تكوين للنشر والتوزيع، جدة، 1442هـ= 2020م، 536 صفحة من القطع الكبير.
والسيرة الذاتية جنس أدبي عرفه أدبنا العربي قديمًا وحديثًا بصور شتى، وفيها يتولى الكاتب سرد قصة حياته أو أطرافًا منها مع التركيز على فترة النشأة والتكوين، ويعتمد على ذاكرته، مع مجموعة متنوعة من المستندات ووجهات النظر، وأحيانا يسرد الكاتب سيرته الذاتية بالكامل اعتمادا على ذاكرته القوية. وقد يتداخل هذا النمط مع الذكريات أو المذكرات التي قد تنحو كما يرى “باسكال” إلى التركيز بشكل أقل على الذات وتتناول الآخرين بشكل أكثر في سرد حياة كاتبها ومراحلها المختلفة.
ولعل أول من درس السيرة الذاتية في جامعاتنا العربية، تحت عنوان “الترجمة الذاتية” كان أستاذنا وصديقنا يحيى عبد الدايم- الأستاذ بآداب عين شمس-رحمه الله، فقد صارت رسالته “الدكتوراه” مرجعا لمن أتى بعده من الدارسين، ومنهم: محمد عبد الغني حسن، وإحسان عباس، ومحمد يوسف نجم، وأنيس المقدسي، وماهر حسن فهمي، وشعبان عبد الحكيم ، وصالح معيض الغامدي، وعبد الله الحيدري…
وتتعدد الاجتهادات في الحديث عن أوليات السيرة الذاتية في الشرق والغرب، ولكن الأدب الأدب العربي الحديث عرف ألوانا مختلفة من السيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية كما يسميها يحيى إبراهيم، كتبها أدباء وسياسيون وعلماء واقتصاديون وشخصيات عامة، قصد أن يقدموا تجاربهم للأجيال الجديدة، وتفاوتت في اللغة والأساليب، وطرق السرد..
وسيرة الشيخ حجاب بن يحيى الحازمي- كما يسميه محبوه وذووه- تأخذ منحى بسيطا سهلا، وأسلوبا طيّعا ليّنا يساعد عليه أن الرجل أديب وشاعر ودارس متعمق في اللغة العربية وتركيباتها وأبنيتها وصياغاتها وبلاغتها، ولذا قدم سيرته في أداء جميل قريب إلى القارئ العادي والمثقف على السواء يختزل فيها تجاربه المختلفة، ليفيد منها القراء والأجيال المتلاحقة، ويروا في تجربته أو تجاربه صورة للصبر والعمل والجد والاجتهاد في ظروف لم تكن مؤاتية، وبيئة تفتقر إلى كثير من أسباب الحياة المريحة، حتى أتيح لها أن تتطور ، وتنتقل إلى مرحلة اليسر والرخاء.
ونلاحظ أن تواضع الرجل جعله يصور حياته من خلال مشاوير، جمع مِشْوَارٍ: وهو ِجَوْلَةٍ قَصِيرَةٍ مُحَدَّدَةٍ بِمَسَافَةٍ يَقْطَعُهَا السَّائِرُ. ويعود منها بعد قضاء الحاجات أو توفير المتطلبات أو حل المشكلات.. ثم يأتي العنوان الفرعي وهو الأهم: (سيرة إنسان ومسيرة مجتمع)، ليرصد قصة حياته نشأة وتكوينا وممارسة، ويربط ذلك بحركة المجتمع وتطوره وانتقاله من وضع صعب خشن إلى حال من التحديث واليسر أتاح لأبناء المنطقة فرصة التعليم والثقافة والحركة المنتجة في شتى المجالات..
لقد آثر الكاتب أن يتوقف عند المحطات المهمة في حياته، ومهّد لذلك بالحديث عن الموقع الجغرافي لمسقط رأسه في ضمد، مع بيان قيمة هذه البلدة العلمية بين نظيراتها من البلدان الأخرى في المنطقة، وكان طبيعيا أن يتوقف عند أسرته العريقة ومكانتها العلمية والأدبية والاجتماعية. ثم ينتقل إلى نشأته وبداياته التعليمية في الكتاب المتنقل والحلقات العلمية، ولم ينس في خضم السرد لنشأته وبداياته أن يتناول دقائق الحياة الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والزراعية، فيشير إلى أثاث المنازل ووسائل الطبخ والإنارة ، والتعليم النظامي ومدرسة الشيخ القرعاوي ومعهد ضمد العلمي ومعهد صامطة ومتاعب السفر والمرض والبحث عن علاج، ثم الدراسة الجامعية ومشقة السفر من الطائف إلى الرياض برا…
وتحدثنا السيرة عن الحياة العملية للكاتب بداية من تعيينه مدرسا بمعهد نجران العلمي بعد تخرجه في كلية اللغة العربية وحصوله على الدبلوم التربوي، وانتقاله إلى وزارة المعارف (التربية والتعليم)، وإدارته للمدرسة الثانوية بضمد التي تفوقت تحت قيادته على ثانويات المنطقة..
أما دوره الثقافي والأدبي في المنطقة فيتجلى من خلال رئاسته لنادي جازان الأدبي وتنشيط الحركة الثقافية بعد مسيرة الرائد محمد بن على السنوسي الذي بلور نشاط النادي وجمع فيه أدباء المنطقة وشبابها، وكان للسنوسي والحازمي دور كبير في إقامة الأمسيات الثقافية، واستقطاب المحاضرين من المنطقة وخارجها ونشر الكتب، والتواصل مع الصحف اليومية وتزويدها بنشاط النادي الحافل.
تروي سيرة إنسان مشاركة الكاتب في أنشطة اجتماعية وثقافية متنوعة، داخل المنطقة وخارجها، مثل المشاركة في التعداد السكاني الأول، والمشاركة في الاحتفاء بالعدد المئوي لمجلة الفيصل، وأول لقاء بعلامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر صاحب مجلة “العرب” الشهيرة، بالإضافة إلى المشاركة في أنشطة ثقافية خارج البلاد وداخلها مثل مهرجان جرش بالأردن ومهرجان الجنادرية ، ورئاسىة اللجنة الثقافية بمنطقة جازان في الذكرى المئوية لتأسيس المملكة العربية السعودية .. ثم عضويته في مجالس وجمعيات ذات صبغة ثقافية وإنسانية وإعلامية وإدارية،
وتشير السيرة إلى محطات طريفة في حياة صاحبها، يسميها أوليّات (متأخرة)، مثل أول مرة رأى فيها السيل= الماء الغزير المتخلف عن المطر = وهو يغطي فضاءات وادي ضمد، وكان في الخامسة من عمره، وأول مرة يشاهد سيارة كبيرة تمر بمدينته والأطفال يجرون وراءها بحماسة وهو في السابعة، وأول مرة ركب فيها الخيل وكان في الثامنة، وأول مرة رأى فيها الجراد وهو يغطي الشمس وكان في التاسعة، وأول مرة يسافر فيها للالتحاق بمعهد صامطة العلمي وهو في الثالثة عشرة، وأول مرة يركب الطائرة، وأول مرة يشاهد التلفزيون، وأول مرة يشاهد السينما بقسم الثقافة التابع لوزارة الدفاع، وأول مرة يستمع إلى محاضرة خارج الجامعة…وأول مقال أدبي له نشرته مجلة اليمامة… ويستمر على هذا المنوال في رصد الأوليات وتأثيرها فيه وانعكاساتها على حياته.
ويذكر صاحب السيرة طرفا من حياته الخاصة، ويشير إلى أبنائه وهم – حفظهم الله- عدد أصابع اليدين من البنين والبنات، كلهم تعلّموا تعليما عاليا أو فوق العالي، وابتعث بعضهم إلى الخارج ليحصل على شهادات عليا، وقد شغلوا مناصب مرموقة أو متميزة في مؤسسات الدولة.
ويحسب لصاحب السيرة أنه احتفظ بالصور والوثائق والقصاصات التي تسجل مسيرته الإنسانية والاجتماعية والثقافية، وقد نشر كثيرا منها في ثنايا السيرة وختامها، وخاصة ما يتعلق بتكريمه وتقديره من الجهات الرسمية والإدارية والثقافية.
لم يتطرق صاحب السيرة إلى الأحداث العامة التي شهدتها البلاد أو كانت طرفا فيها، فقد آثر أن يسجل ماله صلة بمشوار العمر، وأن يتفاعل بأدبه وخاصة الشعر، مع بعض ماجرى على الساحة ، مثل الاعتداء على الكعبة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري (حادثة جهيمان الشهيرة)، ويشير صاحب السيرة إلى أنه حرم قلمه من الحديث عن الصراع في اليمن والاشتباكات التي جرت على الحدود في ستينيات القرن الميلادي الماضي، وكذا وباء أو حمى الوادي المتصدع التي ابتليت بها منطقة جازان ومات بسببها بعض المواطنين والمقيمين، مكتفيا بما كتبه في بعض الصحف، كما لم يتحدث عن وباء كورونا الذي أصاب العالم في أثناء كتابته للسيرة مكتفيا بماقامت به الدولة في معالجة الأمر بالإجراءات الصحية والإدارية التي حافظت على أرواح الناس.
سيرة الشيخ حجاب الحازمي تسجيل أمين وصادق لمرحلة من مراحل تطور المنطقة التي عاش فيها وخدمها بإخلاص، وسجل دقيق لإنتاجه الأدبي وتطوره الثقافي، وتعبير جيد عن مسيرة البلاد وانتقالها إلى وضع أفضل.