يتعلق هذا النوع من التحديات (الثقافية والإعلامية) بالصورة الذهنية التي تحاول الأقلام رسمها في ذهن ثقافات الشعوب المحتضنة للأقليات المسلمة، أو الأغلبية الموجودة بحكم عقيدتها أو أيديولوجيتها أو موطنها، أو ما تحاول وسائل الإعلام ترسيخه في العقل الجمعي ناحية الإسلام بصورة أساسية، ثم سحب ذلك على الأقليات المسلمة داخل المجتمع الذي توجد فيه.
وتتضح هذه التحديات بصورة كبيرة في أوروبا وأمريكا الشمالية حيث تلعب وسائل الإعلام دورًا رئيسيًا مضادًا ناحية الإسلام والمسلمين، وتشير إحدى الدراسات في ذلك إلى أن صورة الإسلام في وسائل الإعلام الأوروبية “جاءت بصفة عامة بشكل سلبي ومشوهه في الغالب ومنفرة، حيث وصف المسلمون بأوصاف بدائية وهمجية، إلا في القليل جدًا من المعالجات الإعلامية، والتي تبقى غير ذات تأثير مقارنة مع الاتجاه السائد”[2].
كما مثلت استطلاعات الرأي مُحفزًا آخر لتشكيل العقل الجمعي الغربي نحو الإسلام والمسلمين، حيث أظهر الاستطلاع الذي أجرته شركة “يوجوف”. ((you Gov أن 56% من أعضاء في حزب المحافظين البريطانيين يرون أن الإسلام يهدد بشكل عام نمط الحياة البريطاني[3].
الاندماج: الذوبان الناعم في الهوية الغربية
ومن ناحية أخرى مثلث سياسة “الاندماج” الثقافي مظهرًا آخر لمحاولات التأثير في قيم وثقافة الأقليات المسلمة في الغرب، وظاهر هذه السياسة هي العمل على دمج المسلمين – بصفة خاصة – داخل المجتمع الغربي من أجل تحقيق التعايش القائم على تعدد الثقافات، أما جوهر هذه الفكرة فيقوم على خلخلة القيم الإسلامية التي تعتقد فيها الأقلية المسلمة ومحاولة إدماجها في القيم الغربية قيم الحداثة والعولمة لاسيما ما يتعلق بالسلوك وأنماط التفكير باعتبار تفوق القيم الغربية على القيم الإسلامية وسيادتها وانتشارها.
وفي ذلك، تشير إحدى الدراسات الغربية أن البحوث لم تحدد بعد الآثار المترتبة على تطوير سياسات للدمج الاجتماعي من أجل تعزيز الأمن. وتعكس التطورات الأخيرة في هذه السياسات في كل من إنجلترا وفرنسا تركيزًا متزايدًا على المواطنين المسلمين من خلال مبادرات شرطية واستراتيجيات تتعلق بالإرهاب… ويقبع “تأمين” هؤلاء المواطنين [المسلمين] ضد مخاطر التطرف الديني على رأس قائمة اهتمامات وزارات الداخلية في كلتا الدولتين”[4]!!.
وفي فرنسا مثل النظام التعليمي الساحة المؤسسية التي دارت فيها رحى الجدل الدائر حول “الرموز الدينية” و”تحديدًا الحجاب. وكان أحد أسباب حظر الحجاب الشهير في 2004 هو تقليل تأثير الأخوات الكبيرات على الصغيرات واضطلعت المدرسة. بدور مركزي في ذلك… وتكشف مواقع داخل وزارة التربية والتعليم الفرنسية تم تكريسها لخدمة الأمن ومنع الراديكالية عن الدور المهم للأمن داخل مؤسسات الاندماج التقليدية[5].
إن حقيقة عملية “الاندماج” تبدو في أنها عملية تهدف إلى “تذويب ودمج الأقليات المسلمة في المجتمع الغربي وفي تمثل عاداته وتقاليده وقيمه.. مما يجعلها من أصعب التحديات التي تواجهها الأقليات المسلمة في الغرب. فأغلب فئات المهاجرين الذين انتقلوا للعيش في بيئات مغايرة ثقافيًا ودينيًا لم يتمكنوا من المحافظة على هويات خالصة، وقد ظهر ذلك واضحًا في اللغة والسلوك الاجتماعي بل إن أجيالهم الثانية اندمجت تمامًا في مجتمعات البلدان التي أقام فيها الآباء”[6].
وتشير التقارير الواردة أنه في إطار عملية الاندماج للمسلمين في ألمانيا أعلنت وزارة الداخلية الألمانية أن الحكومة تخطط لتعديل قانون الإقامة. ومعرفة اللغة الألمانية إجبارية للأئمة الذين يرغبون في القدوم إلى ألمانيا. وهذا الشرط – أيضًا في قائمة لوزارة الدفاع الألمانية حيث عُلِمَ أن القائمين المسلمين على الرعاية الروحية الذين يرغبون بالعمل في الجيش يجب أن يتقنوا الألمانية وأن يتوفروا على شهادة للدراسات الإسلامية من جامعة معترف بها[7].
كما أشار تقرير الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي فيما يتعلق بالموقف الإعلامي الغربي من الأقليات المسلمة، بأن هناك ازدياد الحملات الدعائية المسيئة للإسلام، وتعمدها تشويه الوقائع والحقائق الأمر الذي خلق صعوبات وأعباء نفسية واجتماعية إضافية بين صفوف المجتمعات المسلمة في العالم، حيث “تواجه المجتمعات المسلمة في أوروبا مشكلتان أساسيتان وهما اضطهاد جماعات اليمين المتطرف والتعصب القومي خاصة في دول البلقان. وكذلك مشكلات الاندماج في المجتمع الغربي حيث تسير المجتمعات المسلمة في النهاية إلى الذوبان في ثقافة الأكثرية وبشكل خاص لدى أبناء هذه المجتمعات الذين ولدوا فيها وأصبح لهم حقوق المواطنة الكاملة”[8].
كما تمارس الصين وبشكل قسري عملية تذويب هوية ما يزيد على 15 مليون مسلم أويغوري في تركستان الشرقية (شينج يانج) [9].
التعليم الديني الموجه:
مظهر آخر من مظاهر التحديات الثقافية وهو “التعليم الديني الموجه” من قبل سلطات الدول التي تقطن بها الأقليات المسلمة، وتتحكم في طبيعة المقررات المقدمة – في ظل النظام التعليمي الرسمي – وفي المعارف والمعلومات المقدمة في تلك المقررات، وظهر ذلك في أشكال شتى، منها: “تأسيس كليات ومعاهد للدراسات الإسلامية اللاهوتية (Islamische theologice).
ولا تقتصر هذه المعاهد والكليات على الإشراف على تخريج مدرسين للتربية الإسلامية فحسب، بل تقوم – أيضًا بتكوين علماء ومتخصصين في مجال الأديان والدراسات الدينية الإسلامية عمومًا… ومن هذه النماذج في أوروبا ما ظهر في ألمانيا عام 2011 حيث أسست الدولة الألمانية خمس كليات للدراسات الدينية الإسلامية في أماكن مختلفة من البلاد، ومكنتها من تمويل وإعانات على مدى خمسة أعوام… والمتوقع من وراء كل هذه التدابير هو: أن تبلغ الأقليات المسلمة مرحلة محمودة من فهمها للإسلام(!) وأن تكون مستعدة لتعيش معتقداتها وتمارس الحرية الدينية الإسلامية في سياق أوروبي معاصر، يأخذ بعين الاعتبار الواقع الأوروبي وخصوصًا مسألة التعددية الدينية والتعايش مع الآخرين”[10].
تهدف هذه المؤسسات إلى تدشين ما اصطلح على تسميته في أوروبا “الإسلام الأوروبي” “الإسلام المدني”. لذلك تخصص هذه الكليات (الإسلامية) الجديدة خططًا للأساتذة متخصصين في علم التربية والتعليم والفقه الإسلامي، وعلم الكلام وعلوم القرآن والحديث والتاريخ. وتفسير النصوص وتأويلها والعناية الروحية. وتقوم هذه الكليات كذلك بتكوين الأئمة ومدرسي الإسلام في المستويين الابتدائي والثانوي…إن الطرح النهائي للتعليم الديني الموجه هو الدمج بين القيم الإسلامية التقليدية والمفاهيم الغربية حول العلمانية وحقوق الإنسان[11].
وفي 2010 – أيضًا – أوصى المجلس العلمي، والذي يُعد أهم هيئة استشارية للسياسة التعليمية في ألمانيا بتأسيس أقسام للدراسات الإسلامية في الجامعات الألمانية، على أن يكون الهدف من تلك الأقسام تأهل علماء الدين، ولاسيما المعلمين الذين يتولون تدريس مادة التربية الإسلامية. وعلى مدى خمس سنوات بلغ إجمالي تمويل الوزارة الاتحادية للتعليم والبحث العلمي للمراكز الإسلامية في عدد من الجامعات الألمانية 20 مليون يورو. ويذكر أنه يوجد في ألمانيا أكثر من 4 ملايين مسلم، ويوجد 750 ألف تلميذ وتلميذة من المسلمين في المدارس الألمانية[12].
إن أطفال الجاليات المسلمة الذين يتوجهون للتعليم الديني الموجه أو تعليم تلك الدول “يتعرضون لمسلسل ممنهج يرمي إلى ترسيخ القيم الغربية وزرع أنماط التفكير والسلوك والعادات المرتبطة بها… وعلى سبيل المثال فقط المناهج الدراسية المعتمدة في الدول الغربية، سنجد أن أغلبها لم يقيم بدمج المقاربة التي تنادي بالتداخل الثقافي على الرغم من تبنيها من طرف بعض تلك الدول، تشير الدراسات في هذا الباب إلى أن معظم ما كتب عن الإسلام في المناهج الدراسية الغربية يقدم كما ينظر إليه الغرب وليس كما هو في حقيقته وجوهرة. والنتيجة هي تشويه صورة الإسلام في أذهان المتلقين، سوا أكانوا من أبناء الجاليات الإسلامية أو غيرهم، لأن هناك إصرارًا على تقديمه لدين لا يستطيع مواكبة الحداثة”[13].
يتبع إن شاء الله تعالى.
______________________________________________________________________
[1] أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط.
[2] رحمة الله بن عناية الله أحمد “صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الأوروبي” في: الأقليات المسلمة في العالم، مؤسسة الهدى للنشر والتوزيع، 2004 ص240.
[3] https://metro.co.uk/2019/07/08/tory-members-believe-islam-threat-britain-think-trump-great-pm-10131647/
[4] أندرو أجيلار: “مقاربة العلاقة بين الأمن والاندماج”، ترجمة أحمد بركات، مركز الدراسات الدولية باريس، أصوات أون لاين، http://aswatonline.com، تاريخ الزيارة 30/8/2019.
[5] المرجع السابق.
[6] أحمد عبد الغني محمود: مشكلات الأقليات المهمة في الغرب، شبكة الألوكة www.alukah.net. تاريخ الزيارة 25/8/2019 ، نسخة pdf، ص40.
[7] المرجع السابق.
[8] منظمة المؤتمر الإسلامي: تقرير الأمين العام الخاص بشؤون الجماعات والمجتمعات المسلمة في الدول غير الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي، 2006، ص3.
[9] منظمة المؤتمر الإسلامي: تقرير الأمين العام، مرجع سابق، ص 4.
[10] معز خلفاوي: “التعليم الديني الإسلامي في أوروبا وتحدي التعددية” في: مجموعة من الكتاب: الإسلاميون ومناهج التعليم، كتاب المسبار، رقم (133)، يناير 2018، ص294.
[11] المرجع السابق، ص295.
[12] سيدا سردار، ديغر أكال: “إسلام من أجل ألمانيا”، موقع قنطرة، 23/4/2019، تاريخ الزيادة 1/9/2019.
[13] المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، استراتيجية العمل الثقافي، مرجع سابق، ص18.