كانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل الإمبراطور الروماني تتضمن الكثير من المعاني، من أهمها أن الدولة الإسلامية العظيمة لها وظيفة حضارية وإنسانية، وأنها تعمل لإنقاذ المستضعفين.
فبكل قوة، خاطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإمبراطورَ الروماني هرقل قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي.. أَسْلِمْ تَسْلَمْ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين».
فمن هم الآريوسيون الذين جاء ذكرهم في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا يهتم النبي بأمرهم؟
اتفق معظم المفسرين على أن الآريوسيين هم الضعفاء من الناس أو الفلاحون أو العبيد، فما مدى صحة هذا التفسير؟
دراسة تاريخ المسيحية يوضح أن هذا التفسير صحيح، لكنه لا يوضح الحقيقة الكاملة، وقد تنبه ابن حجر العسقلاني إلى أن المصطلح نسبة إلى عبدالله بن آريوس.
حركة التوحيد في المسيحية!
وآريوس هو شخصية مهمة في تاريخ المسيحية، يشكل امتداداً للحواريين الذين أكدوا بشرية المسيح، ونفوا ألوهيته؛ منهم لوقيانوس الذي تعلم منه آريوس الذي وقف أمام رغبة القياصرة في فرض عقيدة التثليث، وقد قام آريوس بقيادة حركة التوحيد في المسيحية، ودخل في مناظرات مع القساوسة الذين اتبعوا القيصر.
أثار ذلك الكثير من الاضطرابات داخل الإمبراطورية الرومانية، واستطاع آريوس أن يؤثر على الفلاحين البسطاء الذين لم تتفق فكرة التثليث وما تقوم عليه من تعقيد مع فطرتهم، وهكذا أوشكت الآريوسية القائمة على التوحيد أن تصبح دين العالم في تلك الفترة.
لذلك، انزعج الإمبراطور قسطنطين، وملأ قلبه الخوف من انتشار دعوة آريوس إلى التوحيد وبشرية المسيح؛ لذلك قام بدعوة القساوسة إلى مجمع نيقية عام 325م، وفرض عليهم إصدار بيان إدانة لتعاليم آريوس، وحرمان الأساقفة الذين يؤيدون تعاليمه.
انتشار الآريوسية بمصر
كانت مصر أهم المناطق التي تسيطر عليها الإمبراطورية الرومانية التي تحتل أهمية خاصة؛ فهي مصدر القمح الذي تعيش عليه الإمبراطورية؛ لذلك شكل انتشار الآريوسية في مصر خطراً على الإمبراطور قسطنطين.
وبالرغم من سيطرة أتباع مجمع نيقية (المذهب الأرثوذكسي) على الإسكندرية، فإن معظم المصريين كانوا يؤمنون بالتوحيد، وانتشرت دعوة آريوس بشكل كبير في مصر التي أصبحت مركزاً لحركة فكرية جذبت عدداً من القساوسة، أخذت تحاور أصحاب عقيدة التثليث وتجادلهم بالحجة والبرهان، وهو ما شكل، كما يقول عبدالباقي السيد عبدالهادي، زلزالاً هز كيان كنيسة الإسكندرية صاحبة الإيمان الأرثوذكسي.
ويرى عبدالهادي أن فكرة ألوهية المسيح لم تكن منتشرة خلال القرون الثلاثة الأولى، وأن الآريوسية كانت تمثل تحدياً لهذه الفكرة التي حاول قسطنطين فرضها بالقوة.
ومن الواضح أن المسيحية في العالم تحاول حتى الآن أن تفرض على المسيحيين نسيان آريوس ومذهبه؛ لأن هناك مجموعات في أوروبا تحاول الرجوع إلى التوحيد ورفض فكرة ألوهية المسيح، وهو ما يشكل امتداداً للحركة الآريوسية في العصر الحديث؛ ولذلك تطارد الكنيسة هذه المجموعات، وتحاول إسكات صوتها؛ فهل لذلك علاقة بمحاولة نفي المستشرقين لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل والتشكيك فيها، وأنهم يحاولون بكل الأساليب حماية عقيدة التثليث بإجبار العالم على نسيان الآريوسية، خاصة أنها أوشكت أن تسود العالم خلال القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وأن فرض عقيدة التثليث تم بالقوة والقهر والإجبار وارتكاب المذابح خاصة في مصر؟
يقول عبدالهادي: إن هناك حركة انتشرت في أوروبا خلال القرن السادس عشر الميلادي يقودها «ميخائيل سرفت» الذي ألف كتاباً بعنوان «خطأ التثليث» عام 1531م، وقد تم الحكم عليه بالحرق حياً؛ حيث كان «كالفن»، حاكم جنيف، يرى أن مذهب الموحدين بداية النهاية للمسيحية، ولقد شكلت حركة «سرفت» امتداداً للآريوسية؛ فقد وصف «ول ديورانت» مفهوم «سرفت» للمسيح عليه السلام بأنه قريب جداً من مفهوم محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك حركات أخرى تبنت التوحيد في أوروبا، مثل حركة المسيحيين الموحدين في إيطاليا «الصوصينية» التي لاحقتهم الكنيسة حتى فروا إلى سويسرا ثم إلى بولندا.
ويضيف عبدالهادي أن من أتباع عقيدة الموحدين بعض من تولوا رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، مثل «جون آدمز»، و»توماس جيفرسون»، و»وليم تافت»، كما ظهر مفهوم التوحيد في كتابات «تولستوي»، و»رينان»، والقول بأن المسيح إنسان كسائر الناس.
ويستطرد عبدالهادي أنه ظهرت مملكة للموحدين في رومانيا خلال القرن السادس عشر الميلادي، تبناها الملك «جون سيقموند»، وأنه لا يزال فيها أكبر تجمع للموحدين في العالم حيث يبلغ عددهم 80 ألفاً.
وفي عام 1977م، صدر كتاب بعنوان «أسطورة الله المتجسد»، كتبه سبعة من كبار رجال الكهنوت يعلنون فيه إنكار ألوهية المسيح ويقرون ببشريته فقط، وكان من أبرز ما جاء في الكتاب: «إن هناك حاجة ماسة في القرن العشرين لتطور عقائدي كبير، هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان رجلاً أيَّده الله لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلهي».
مؤامرة ضد آريوس
يرى عبدالهادي أن آريوس تعرض لمؤامرة ومحاولة طمس كامل لفكره الحقيقي من قبل مخالفيه حتى لا يظهر للناس؛ فالحركة الآريوسية هي دعوة مجردة لتوحيد الله تعالى، وإثبات بشرية المسيح، ونفي الطبيعة الإلهية عنه، ولقد تم اضطهاد آريوس وتعرض للامتهان بسبب موقفه بعد أن لقيت دعوته قبولاً من جموع غفيرة من شعب الإسكندرية.
وربما يوضح ذلك لنا تفسير المؤرخين المسلمين لمصطلح «الأريسيين» بأنهم الفلاحون أو عبيد الأرض؛ حيث إن معظم الفلاحين الفقراء اتبعوا آريوس ورفضوا التثليث، وهذا يفسر إقبالهم على اعتناق الإسلام، وترحيبهم بالفاتحين المسلمين الذين حرروهم من اضطهاد الرومان، وأنهم وجدوا في الإسلام ما يتفق مع عقيدتهم، وأن الإسلام يحررهم من العبودية للإمبراطورية الرومانية، وهذا يمكن أن يفسر لنا موقف هرقل، وكبير أساقفته، والنجاشي.
فهرقل خاف على حياته وملكه ونافق قساوسة التثليث أو أخفى عقيدته الجديدة، بينما ضحى كبير الأساقفة بحياته من أجل إسلامه والحقيقة التي يعرفها، وأسلم النجاشي سراً بعد أن قرر بوضوح أن المسيح هو -كما وصفه الإسلام- عبدُ الله ورسوله، أما الفلاحون في الشام ومصر فقد اعتنق الكثير منهم الإسلام.
ويرى عبدالهادي أن القساوسة الذين وقَّعوا على بيان مجمع نيقية كانوا أغلبية بسيطة، وأن نسبة كبيرة من القساوسة كانوا يعارضون فكرة التثليث التي تبناها الإمبراطور، وأن الذين وقعوا خافوا من سيف قسطنطين.
وقياساً على ذلك، فإن الكثير من المصريين الذين خضعوا لكنيسة الإسكندرية كانوا يخافون من الاضطهاد الروماني بعد أن شهدوا المذابح التي تعرض لها الآريوسيون، واضطرارهم إلى الهرب في الصحراء.
وهذا يوضح أن آريوس لم يكن مجرد قسيس أو مفكر، لكنه كان مدافعاً عن الحقيقة، وكان يقود الكثير من الناس داخل الإمبراطورية الرومانية الذين يرفضون فكره التثليث.
وكان الإمبراطور قد قرر بعد مجمع نيقية حرق كل الوثائق المخالفة لقرارات المجمع، ومن بينها الأناجيل القديمة التي استند إليها آريوس في إثبات بشرية المسيح، وبذلك أخفى كل تاريخ المسيحية قبل مجمع نيقية؛ فلماذا قام الإمبراطور بحرق تلك الأناجيل؟!
إن هذا يوضح الحقيقة التي يحاول الغرب إخفاءها، والتي حاول المستشرقون نفي رسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل لمنع ظهورها، كما يفسر لنا سبب تجاهل الكنيسة لتاريخ هرقل بعد تلقيه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنع نشر أي معلومات عن كبير الأساقفة الذي أسلم فقتله القساوسة.
ثورة آريوسية
إنهم بذلك يحاولون تحصين الانتصار الذي حققه الإمبراطور قسطنطين، ومنع المسيحيين من الحصول على المعرفة، وهذا يفسر أيضاً لماذا ظلت الكنيسة لقرون طويلة تمنع نشر الإنجيل أو حصول الناس على المعرفة.
يقول عبدالهادي: بعد مجمع نيقية، لاح في الأفق نذر ثورة آريوسية عاصفة في مصر ضد كل من ساهم في إصدار القرارات ضدهم وضد مذهبهم، وهو ما عبر عنه «إيوزيبيوس» بقوله: ساد السلام في كل مكان إلا مصر وحدها، ما زال يتأجج فيها أوار جدل مستعر أفسد على الإمبراطور سكينة مسرته.
ولقد جاء الفتح الإسلامي ليحمي المصريين الموحدين من الاضطهاد الروماني، وليفتح أمامهم المجال للحصول على الحرية، وليضيء حياتهم بنور الإسلام، بينما سمح الفاتحون العظماء لأتباع مذهب التثليث الذين قبلوا قرارات مجمع نيقية أن يتمتعوا بالحرية في اعتناق مذهبهم.
لكن الغرب ما زال يخاف من ذكر مصطلح الآريوسيين؛ لذلك يحاول إخفاء الحقيقة، ويستخدم أولئك المستشرقين الذين يدعون كذباً الموضوعية وتطبيق المناهج العلمية للتشكيك في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وللهجوم على الصحابي الجليل دحية الكلبي الذي قام بنقل الرسالة.
وفي هذه المرحلة تحتاج الأمة إلى نوعية جديدة من الباحثين الذين يكتشفون الحقائق، ويعيدون التاريخ ليكون فاعلاً في بناء عالم جديد.