تذكّر الإنسانية نفسها بقضايا حيوية تحتاج إلى معالجتها من خلال اتخاذ أيام عالمية تتواصى فيها بتنفيذ الاتفاقات الدولية، وتجدد العهود والمواثيق نحو تقديم مستوى أفضل من الحياة، والالتزام بالقيم الإنسانية المشتركة، ومن هذه الأيام اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يوافق يوم التاسع من ديسمبر من كل عام.
وتشارك أمتنا العالم في الحديث عن الفساد وضرورة القضاء عليه من خلال الاحتفاء بذلك اليوم، لكن لكل أمة نظرتها حسب معتقداتها وتراثها.
ورؤيتنا للفساد وسبل مكافحته تنبع من مصادرنا الأصيلة التي نستقي منها وصف شيء ما بالصلاح أو بالفساد كما نستقي منها سبل الإصلاح.
وتنطلق رؤيتنا لهذه القضية من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض والجبال والبحار والأنهار وسائر مكونات البيئة صالحة لخدمة الإنسان وخلق الإنسان صالحاً لعبادة الرحمن، ولكن شياطين الإنس والجن أرادوا الفساد للإنسان والكون؛ فبدؤوا بالعقيدة التي تكوّن تصور الإنسان عن الحقائق والقيم، وما يصح وما لا يصح، وطرحوا شكوكهم حول الإله والنبي والكتب والحقائق الإسلامية الكبرى؛ لأن هذه المسائل هي التي تشكل وعي الإنسان وتمكنه من الميزان الصحيح للأشياء والأشخاص والقيم، فإذا اعتدل ميزانه استقامت حياته، وإذا مال ميزانه انحرف عن الصراط المستقيم.
والإسلام لا يضيق ذرعاً بالأسئلة، بل يذكر الله تعالى في كتابه سؤال الخليل عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، بل يقدم التحصينات المسبقة للأسئلة التي يمكن أن تطرح من قبل المخالفين؛ {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، لم يقولوا بعد، فإذا قالوا لكم فقولوا لهم: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وعلى كل عالم مسلم أن يتلقى أسئلة الناس بصدر رحب، ويجيب عنها بوضوح، وعلى كل من تثور في ذهنه أسئلة أو شكوك أن يسأل عنها حتى يجد الإجابة التي تقنعه وتريح باله، ومن فضل الله تعالى أن أهل العلم الشرعي يقدمون ما لديهم بدون مقابل.
وسبب الهجمات على العقائد أن لكل شخص يعتمد على نفسه ويؤمن بقدراته طاقة يتحمل بها مواجهة العقبات والأزمات، تنتهي هذه الطاقة بعد مدة طويلة أو قصيرة، لكن المسلم يستمد قوته من كتاب ربه الذي يطالعه باستمرار فيجد فيه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] وغيرها من الآيات التي تبين له أنه ليس وحده، وأن الله تعالى معه يؤيده ويعينه طالما كان مع الله تعالى طائعاً لربه حسب طاقته.
إذا فسدت عقائد الناس كان الانهيار سريعاً والمقاومة للفساد ضعيفة أو معدومة، إذا رسخت العقائد في القلوب وتحولت إلى وقود للعمل الصالح أثمرت بعداً عن الفساد وأهله وسعياً للإصلاح.
وخير مثال على ما يمكن أن تصنعه العقائد الصحيحة إذا استقرت في القلوب انطلاق الصحابة رضوان الله عليهم في ربوع الأرض حاملين لرسالة التوحيد، محررين الإنسان من كل فساد ديني أو خلقي أو اجتماعي.
ومن الضربات التي توجه للعقائد لتجعلها مباحث نظرية لا تحرك قلباً أو عقلاً بل تكون مثار نزاعات بين أبناء الملة الواحدة ليكفر بعضهم بعضاً أو يفسق بعضهم بعضاً، ليفشلوا وتذهب ريحهم إلى الضربات التي توجه للأخلاق، وقد فهم أولو الألباب دور الأخلاق في صيانة المجتمعات فقالوا:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
من أمهات الأخلاق التي يحرص أهل الفساد على هدمها خلق العفة، فجدار العفة يحمي الشخص ويحمي المجتمع، ولا يزال الفاسدون يتربصون بمن يريدون إفساده حتى ينهدم جدار العفة ويسجلون ذلك عليه صوتاً وصورة، ويبتزونه بالمواقف المخجلة التي وقفها لينفذ لهم ما يريدون حتى لا ينفضح أمره بين الناس.
وتجد الحملات الشعواء على من يحبون الطهارة ويدعون لها وعلى المتطهرين، كانت هذه الحملات تدار في الخفاء والآن علناً ويروج لها بالإرهاب الفكري واستدعاء واستعداء المنظمات الدولية لتتخذ مواقف من المتطهرين وتطاردهم ليتحول الشذوذ والانحراف إلى أصل، وتنقلب الطهارة إلى خروج عن الأصل، ولا نتعجب من هذا فهو الذي حدث في مجتمع قوم لوط عليه السلام
ومن الأخلاق التي يسعى لها أهل الفساد خلق الأمانة، وارتباطه بالإيمان ارتباط عضوي، فكلاهما مادته واحدة الألف والميم والنون، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذه الصلة الوثيقة، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: “لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ” [مسند أحمد]، يتسع مفهوم الأمانة ليشمل أفراد المجتمع على اختلاف طبقاته، وكون كل منهم موكل بمهمة ينبغي أن يقوم بها خير قيام، ولا يحمله تقصير الناس في أداء ما كلفوا به أن يسير في تيار التقصير الذي يمكن أن نسميه تيار خيانة الأمانة، فهذا ليس من شأن المسلم، قال عبدالله: “لَا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً»، قِيلَ: وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: “الَّذِي يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنَّهُ لَا إِسْوَةَ فِي الشَّرِّ” [الإبانة الكبرى لابن بطة].
يسير الإنسان خطوة خطوة نحو الفساد فيقف على بابه أولاً خائفاً يتملكه الحياء، ثم يصل إلى أسفل دركاته حين يختلط بلحمه ودمه فيتصور إفساده إصلاحاً؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
ويبدأ الإصلاح من النفس التي تدلها عقيدتها على لقاء الله تعالى بوجوه مبيضة أو مسودة وصحف مليئة بالحسنات أو بالخطايا؛ مما يلقي بظلاله على قلب المؤمن فيخاف ويستحي من ربه، قال ربنا عز وجل: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة” [صحيح ابن حبان]، فإذا خاف الله تعالى خاف أن يكون مفسداً أو فاسداً.
وعلى المجتمع أن يدرك ما يصيبه بوجود الفساد من شرور وأضرار، ليس على البشر وحدهم، بل على البيئة أيضاً؛ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، ولذلك عليه أن يبادر بالإصلاح.
إن الفاسد يتحمل إثم فساده في الدنيا والآخرة، ولكن البعض يقع في إثم كبير حين يكون تقديره للفاسد وحبه له لأنه ينجز له ما يريد بالمخالفة للحق، وحين نطلب ما ليس من حقنا فيعطينا نحبه ونحميه وندافع عنه؛ لأننا بذلك نحمي مصالحنا، وهذا مما يوسع دائرة الفساد التي ستصيبنا آثاره يوماً ما.
مهما كان حجم الفساد كبيراً يمكن إزالته أو التخفيف منه، فكم من أمة صدقت عزيمتها وبذلت جهدها وسعت سعيها لتغلق صنابير الفساد، وتوجه هذا الهدر الذي ابتلعه وحش الفساد إلى التنمية والتعمير، فكانت النهضة والرخاء الذي أدركت الشعوب آثارها، وكانت الحروب الضروس ضد من يجتهد في قلع جذور الفساد بالحكمة والصبر والدنيا هكذا دائماً صراع بين الصلاح والفساد.