لا شيء مستثنى أمام آلة الاستيطان “الإسرائيلي” التي تبتلع أراضي الضفة الغربية بما فيها من حجر وشجر، حتى طالت معالم ومقامات دينية وتاريخية، يستهدفها الاحتلال بالتزوير والادعاء بيهوديتها وارتباطها بتاريخ مكذوب، منذ النكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا.
وفي شمال الضفة، حيث تكثر المقامات والأماكن التاريخية والإسلامية، تركزت عمليات الاستيلاء والسيطرة عليها، بعضها ابتلعته نقاط أمنية وعسكرية، وأخرى أضحت محطات تزوير دينية وسياحية استيطانية، ومعالم أخرى تحت الرقابة والتهديد؛ تمهيدا للسيطرة عليها بشكل كامل.
ومن المقامات التي ابتلعها الاستيطان شمال الضفة، مقام “بلال بن رباح” الذي سيطرت عليه مستوطنة “ألون موريه” جنوب نابلس، ومقام “الشيخ غانم الدين المقدسي” على جبل جرزيم بنابلس، في حين تستهدف مقامات أخرى في محافظة سلفيت بالتزوير ومحاولات السيطرة عليها من خلال اقتحامات ينظمها المستوطنون للصلاة والغناء والرقص فيها.
ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية
ويشير مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية غسان دغلس إلى ما تتعرض له مقامات “ذي الكفل” في بلدة حارس شمال سلفيت، حيث باتت هدفا متواصلا لزيارات وصلوات المستوطنين المتطرفين، يتخللها الغناء والرقص، إضافة لقبر يوسف وما يرافق اقتحاماته من جنون أمني وعسكري ودموي، حسب قوله.
ويضيف “دغلس” “أن المستوطنون يستهدفون أيضا مقامات شعلة في الناقورة وبايزيد في برقة، قرب مستوطنة حومش المخلاة في محاولة لبسط سيطرتهم عليها”.
ويوضح أن “ناشطي الاستيطان وحاخامات المدارس والمعاهد الدينية يقومون بتعبئة وتوجيه الأطفال والفتية اليهود بمعلومات مضللة، تشير ليهودية المقامات واستجلاب مصطلحات دينية واهية تدعم أكاذيبهم ومزاعمهم”.
تزوير التاريخ
إلى ذلك، يشير المؤرخ مروان الأقرع، إلى أن هدف الاستيطان من ابتلاع المقامات هو محاولته المحمومة لإثبات أحقيته بها، كشماعة تعيد عقارب التاريخ للوراء، وترداد مقولات أرض الآباء والأجداد وخلافها من مصطلحات دخيلة على تاريخنا وحضارتنا وأرضنا.
ويفند “الأقرع” المزاعم الاستيطانية واليهودية، لافتًا إلى أنّ تاريخ المقامات التي تم ابتلاعها ضمن المستوطنات وتلك الأخرى المهددة، تعود حقبتها التاريخية والعمرانية لفترة المماليك.
ونبه لخضوع شمال الضفة للفترة السامرية (السامرة) وليست اليهودية، مضيفًا: “المستوطنون يسرقون حجارة مخطوطة على أبواب المقامات ومحاريبها لإخفاء التاريخ الإسلامي العروبي، كما هو الحال في مقام أبو إسماعيل قرب مستوطنة “براخا”، ومقابل حاجز حوارة وغيره من المقامات والشواهد”.
ورصد الأقرع في سياقات تاريخية، وقوع المقامات على التلال والجبال لغايات المراسلات بين القلاع والمدن، فيما كانت مدن الساحل الفلسطيني تحت سيطرة الصليبيين، مشيرًا إلى أن إطلاق أسماء الصحابة عليها كان لتحبيب المريدين المتصوفة بالمكان ودعم حضوره.
وإلى قرية عزموط شرق نابلس، يحدثنا مخلص سمارة الذي ولد هناك في ذات العام الذي غرست فيه مستوطنة “ألون موريه” القريبة من مسقط رأسه عام 1982، ويقول إنه لم يتمكن في حياته من الوصول لـ “مقام بلال بن رباح”؛ بسبب التواجد العسكري والحراسات المشددة ورفع الأعلام الإسرائيلية على قبته.
المقامات الإسلامية في الضفة الغربية
ويضيف: “الأراضي المجاورة والتي تم شق الطرق فيها مؤخرا لخدمة الأراضي الزراعية يُلاحق فيها الأهالي ويمنعون من عبورها، فما بالكم بمقام إسلامي؟ (…) الاحتلال يبتلع كل شيء ويصادر الأرض بكل شيء عليها”.
ولم تكن المساجد أيضًا بعيدة عن الاستهداف، ففي بلدة قريوت جنوب نابلس، كان مصير مسجدين يقعان في منطقة سيلون الكنعانية التابعة للبلدة، السيطرة والضم لهيكلية وحدود مستوطنة “شيلو”، التي ابتلعت آلاف الدونمات في المنطقة، وفق الناشط بشار القريوتي.
ويشير القريوتي إلى زيارته تلك المنطقة ضمن وفود صحفية وسياحية، حيث شاهد ووثّق الشواهد التاريخية والإسلامية جميعها في المساجد والمقامات ومنها مسجدا العمري والتسعين.
وتنتشر المئات من المقامات الإسلامية في الضفة الغربية، وتظهر بشكل جلي بالطابع الإسلامي من خلال القباب والمحاريب وطريقة الدفن الإسلامية؛ ورغم ذلك يستبيحها المستوطنون تحت حراسة من جيش الاحتلال.
وعادة ما يرافق اقتحام المستوطنين لتلك المقامات، اعتداءات على أهالي القرى القريبة منها، وسط حالة من الفوضى والغناء والرقص، إضافة لخط شعارات عبرية عنصرية على جدرانها مثل “الموت للعرب”.
وتشهد تلك الاقتحامات مواجهات عنيفة، لا سيما لدى اقتحام مقام قبر يوسف في نابلس، الذي يدّعي المستوطنون أنه قبر النبي يوسف عليه السلام، في الوقت الذي تنفي الحقائق التاريخية والأثرية والدراسات التي أجريت للمكان تلك المزاعم، مشيرة إلى أن عمر القبر لا يتجاوز الـ200 عام، ويعود لأحد الرجال الصالحين الذين سكنوا المنطقة قديما ويدعى يوسف دويكات.
الاستيطان كان ولا يزال جوهر مشروع الحركة الصهيونية
ويؤكد الكاتب الصحافي الباحث في الشؤون “الإسرائيلية” أنطوان شلحت أنه من الصعب اعتبار المستوطنين في أراضي 1967 ظاهرة غير مألوفة في الحياة السياسية العامة لدولة الاحتلال، نظرًا إلى حقيقة أن الاستيطان كان ولا يزال جوهر مشروع الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، إلا أن تصاعد مكانتهم ونفوذهم في سياق معركة الانتخابات الإسرائيلية، أخيرا، أتى بعد نحو عقد من انتخابات سابقة جرت في عام 2013، وكان هذا التصاعد بمثابة أبرز سمة طبعت بميسمها مرحلة ما بعد تلك الانتخابات.
وبرأي شلحت لم ينعكس تصاعد نفوذهم آنذاك فقط في اتساع شعبية حزب “الصهيونية الدينية” الذي خاض تلك الانتخابات تحت مُسمّى “البيت اليهودي”، وكان بزعامة نفتالي بينت، وفي علو مكانته، وإنما انعكس أيضًا في تعزيز سيطرتهم على “الليكود” الذي أصبح أكثر استيطانيًّا، بلغة أحد المعلقين، ونجاحهم في احتلال مرتباتٍ متقدّمة في قائمة “الليكود بيتنا” (بين حزبَي “الليكود”، و”إسرائيل بيتنا”)، وفي واقع فرض الكثير من مظاهر التماهي مع أجندتهم على جميع الأحزاب الصهيونية.
ويقول شلحت إنه، لإثبات ذلك، يكفي استعادة بعض الوقائع المجرّدة المتعلقة بهذا الشأن، والتي شفّت عنها تلك المعركة الانتخابية، منها: قيام رئيس الحكومة في حينه، بنيامين نتنياهو، بجولة في البؤرة الاستيطانية رحيليم التي صادقت الحكومة على تحويلها إلى مستوطنة دائمة، وُصفت بأنها أول جولة يقوم بها خلال ولايته الحالية في رئاسة الحكومة خارج الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية. ويشير لإعلان نتنياهو خلالها أن تعزيز قوة تحالف “الليكود بيتنا” في الانتخابات سيتيح له إمكان القيام بمزيد من المناورات في كل ما يتعلق بضمان مستقبل المستوطنات في الضفة؛ المحاولات المتكرّرة لزعيمة حزب “العمل”، شيلي يحيموفيتش، الرامية إلى منافسة الليكود في تأييد المستوطنين، وفي تقديم الميزانيات المالية لهم.
مفهوم الانفصال
ويضيف: بدأت هذه بمحاولاتها في أثناء حملة الاحتجاج الاجتماعية في صيف 2011، حين قالت، في مقابلة صحافية، إنها لا ترى أن المشروع الاستيطاني يعتبر خطيئة أو جرمًا، وأن إجماعًا مطلقًا عليه، في حينه، وأن من نهض بالاستيطان في أراضي 1967 هو حزب “العمل”، وهذه حقيقة تاريخية، ورفضت الادّعاء أن سبب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغياب دولة الرفاه في “إسرائيل” يعود إلى رصد ميزانيات وموارد هائلة للاستيطان، اختيار زعيم حزب “ييش عتيد”، يائير لبيد، إطلاق حملته الانتخابية من جامعة أريئيل التي أقيمت في المستوطنة التي تحمل الاسم ذاته.
بموازاة ذلك، أظهر تقرير صادر عن حركة السلام الآن، المناهضة للاستيطان، أن عدد الوحدات الاستيطانية التي أقرّت حكومة نتنياهو إقامتها في 2012 ازداد أربعة أضعاف عما أقرّت إقامته في 2011. وبالأرقام، أفاد التقرير بأن الحكومة صادقت في ذلك العام على خطط تقضي بإقامة 6676 وحدة استيطانية، أغلبها شرقي الجدار الفاصل، مقارنة بـ1607 وحدات صودق عليها في عام 2011، ومئات الوحدات التي صودق عليها في عام 2010.. في ضوء ذلك تكرّر في حينه الحُكم بأن الخلافات بين الإسرائيليين إزاء مستقبل الأراضي المحتلة منذ 1967 حُسمت لمصلحة المستوطنين، وأن نُذُر هذا الحسم لاحت منذ تنفيذ ما تعرف باسم “خطة الانفصال” عن قطاع غزة في خريف 2005.
وبرأي شلحت ينبغي إعادة التذكير بأنه، بالتزامن مع تنفيذ تلك الخطة، أشار مقرّبون من رئيس الحكومة السابق، أريئيل شارون، بوصفه أبًا روحيًّا وعمليًّا لـ”مفهوم الانفصال”، إلا أنه كان مُدركًا على نحو جيّد أن هذه الخلافات حُسمت آنذاك لمصلحة المستوطنين.
متجهون نحو التصعيد
ويتابع: لذا فبواسطة إبراز الصعوبة الكبيرة التي واجهت عملية إجلاء عدة آلاف من المستوطنين في قطاع غزة أظهر للعالم كله صعوبات أكبر من المتوقع مواجهتها في حال الإقدام على عملية إجلاء تشمل أعدادًا تفوق عدد أولئك المستوطنين بعشرات الأضعاف في أراضي الضفة الغربية”. ويقول إنه منذ ذلك الوقت، تعزّز التقدير أن الدولة الفلسطينية التي تؤيد قوى سياسية إسرائيلية إقامتها إلى جانب دولتهم لا تختلف كثيرًا عن السلطة الفلسطينية الحالية، سواء من الناحية الجغرافية، أو من الناحيتين السياسية والأمنية.
في هذا السياق، حذر رئيس “الشاباك” الأسبق عامي أيلون من استمرار استخدام إسرائيل للقوة، ففي حديث مع صحيفة “معاريف” سئل ما إذا كان الأمر قد تحول إلى تصعيد أمني سببه “إسرائيل”، فقال: نحن متجهون نحو التصعيد، الناس سيموتون وسيصابون.. ولا حل سوى الحل السياسي وتقاسم البلاد مع الشعب الفلسطيني.