لم يحدث في تاريخ الكيان الصهيوني أن حازت قوى اليمين الديني اليهودية المتطرفة على مواطن نفوذ هائلة كما هي الحال في حكومة «بنيامين نتنياهو» التي يعكف على تشكيلها؛ فقوى اليمين الديني اليهودية تبدو عازمة على توظيف انضمامها للحكومة الجديدة في تحقيق هدفها المتمثل في حسم الصراع لصالح الصهاينة، وتقليص قدرة الفلسطينيين على مواصلة المقاومة والبقاء من خلال أدوات متعددة ومتشابكة.
وحازت قوى اليمين الديني على العديد من مراكز النفوذ ذات العلاقة بإدارة الصراع مع الشعب الفلسطيني، وسنتعرض هنا لبعض هذه المراكز التي ستسهم في إحداث تحول هائل على بيئة الصراع.
احتكار ملف الاستيطان
إن أحد الإنجازات التي حققتها قوى اليمين الديني تتمثل في تأمين احتكارها الإشراف على ملف الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، وقد نص الاتفاق بين حزب الليكود الذي يقوده «نتنياهو» وحركة «الصهيونية الدينية» التي يقودها «بتسلال سموتريتش» على تدشين وزارة خاصة تعنى بالإشراف على الاستيطان، وتكون تابعة نظرياً لوزارة الحرب، لكن ستشغلها النائبة «أوريت ستروك»، وهي قيادية في حركة الصهيونية، وتعد من غلاة قيادات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية في الوقت ذاته، ولما كانت حركة «الصهيونية الدينية» تنادي بضم الضفة الغربية، فحصولها على هذه الوزارة ذات التأثير الهائل على مستقبل الأراضي المحتلة سيساعدها على تحقيق الهدف.
وقد منح الاتفاق بين الليكود و«الصهيونية الدينية» الوزيرة العتيدة «ستروك» صلاحية منح تراخيص لبناء مستوطنات يهودية جديدة، فضلاً عن منحها الحق في تشريع عشرات البؤر الاستيطانية التي دشنها المستوطنون اليهود في أرجاء الضفة بدون الحصول على إذن الحكومة والجيش.
وستعمل الوزيرة الجديدة على توفير المحفزات التي تشجع المستوطنين اليهود على القدوم للإقامة في المستوطنات المقامة في الضفة من خلال التوسع في بناء مشاريع البنى التحتية، وتوفير فرص عمل وتقديم قروض ائتمانية لمساعدة الأزواج اليهوديين الشباب على شراء شقق سكنية في المستوطنات بشروط ميسّرة.
لكن مما لا شك فيه أن أخطر ما تنطوي عليه الصلاحيات الممنوحة لهذه المتطرفة هي تلك المتعلقة بمراقبة البناء الفلسطيني في المناطق التي تعرف بمناطق «ج» التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية؛ فإحدى الجرائم التي ارتكبتها منظمة التحرير الفلسطينية التي وقَّعت على اتفاقية «أوسلو» تتمثل في أنها منحت «إسرائيل» الصلاحيات الأمنية والمدنية في مناطق «ج»، بمعنى أن الكيان الصهيوني هو صاحب الحق في منح تراخيص البناء في هذه المنطقة، وبالتالي يحق للصهاينة تدمير المنازل الفلسطينية إذا بنيت بدون الحصول على تراخيص.
ونظراً لأنه من النادر أن تمنح السلطات الصهيونية الفلسطينيين تصاريح للبناء، فإن الكثير منهم يضطرون للبناء بدون الحصول على تصاريح، وهذا يمنح تلك السلطات الحق في تدمير هذه المنازل، ومن الواضح أن الوزيرة الجديدة ستتوسع في تنفيذ عمليات تدمير المنازل الفلسطينية بهدف تقليص الوجود الفلسطيني في المنطقة مما يساعد على إفساح المجال أمام توسع المستوطنات.
وزارة المالية
تعد وزارة المالية ثاني أهم وزارة «سيادية» في الكيان الصهيوني، حيث إن وزير المالية هو المسؤول عن صياغة السياسة الاقتصادية، وبشكل أساس تحديد جدول الأولويات «القومي» على صعيد الموازنات، وقد منح الاتفاق الائتلافي بين الليكود و«الصهيونية الدينية» وزارة المالية لزعيم الحركة «سموتريتش»، وإن كانت الوزيرة «أوريت ستروك» ستكون مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات الإدارية التي تشجع الاستيطان اليهودي في الضفة، وتجفف الوجود الفلسطيني هناك؛ فإن «سموتريتش» سيتولى تخصيص الموازنات المالية اللازمة لتحقيق حلمه في ضم أغلب مناطق الضفة الغربية للكيان الصهيوني.
ويتوقع على نطاق واسع أن يعلن «سموتريتش» عن المستوطنات اليهودية في الضفة والقدس والجولان كمناطق «أفضلية أ»، وهي المناطق التي يمنحها الكيان مزايا تفضيلية مقارنة بالمناطق الأخرى؛ من حيث الموازنات والتسهيلات الضريبية وفرص العمل ذات مستويات الدخل المرتفع، ومما يعزز من تأثير حصول اليمين الديني على وزارة المالية حصول هذا اليمين على وزارة لا تقل أهمية وهي وزارة الإسكان، التي سيتولاها الحاخام «إسحاك غولدنكاف»، زعيم حركة «يهدوت هتوراة» الدينية الحريدية.
وتكمن خطورة حصول «غولدنكاف» على هذه الوزارة حقيقة أن أتباع التيار الحريدي يبحثون عن مجتمعات منفصلة، ويحرصون على عدم الاختلاط بالقوى العلمانية، ومنذ عقدين من الزمان وجد الحريديم ضالتهم في تدشين المستوطنات في الضفة الغربية؛ حيث تمنحهم تلك البقعة الجغرافية القدرة على العيش دون الاختلاط بالقوى والتيارات اليهودية التي لا تتبنى نمط توجهاتها الدينية، وسيوظف «غولدنكاف» نفوذه في الدفع نحو تدشين مستوطنات خاصة بالحريديم داخل الضفة الغربية تسهم في تحقيق هدف الكيان الصهيوني المتمثل في حسم مصير الأرض لصالحه.
وزارة النقب والجليل والأحياء
توصل حزب الليكود والحركة «الكاهانية» الدينية المتطرفة التي يقودها «إيتمار بن غفير»، الذي سيتولى منصب وزير الأمن الوطني في الحكومة الجديدة، إلى اتفاق يتم بموجبه تدشين وزارة جديدة يطلق عليها وزارة «النقب والجليل والأحياء»، ومنحها لـ«إسحاك فاسلوف»، أحد قيادات «الكاهانية».
وتكمن خطورة هذا التطور في أمرين؛ أولاً: منطقتا «النقب والجليل» تضمان حوالي 70% من فلسطينيي الداخل، وستكون الوزارة الجديدة مسؤولة عن منح الخدمات للقاطنين فيهما.
ثانياً: البرنامج العام لحركة «الكاهانية» ينص بشكل صريح على ضرورة تشجيع فلسطينيي الداخل على الهجرة إلى الدول العربية، من هنا، فإنه عندما يتولى قيادي في «الكاهانية» منصب وزير «النقب والجليل والأحياء»، فإنه سيصمم سياسات الوزارة بحيث تسهم في تقليص قدرة فلسطينيي الداخل على الصمود والبقاء، وقد أوضح «فاسلوف» بشكل صريح أنه سيعمل على مساعدة من وصفهم «المخلصين للدولة»؛ أي أنه يعلن سلفاً أنه لن يسارع إلى تقديم الخدمات إلى فلسطيني الداخل.
رغم ما تقدم، فإن تطبيق السياسات التي تمت الإشارة إليها آنفاً لا يعني بالضرورة أنها ستؤتي أكلها وتحقق النتائج المرجوة منها؛ فهذه السياسات ستكون وصفة لإشعال الأوضاع بشكل غير مسبوق؛ فالشعب الفلسطيني أثبت أنه عصيٌّ على الكسر، ولن تسهم هذه السياسات إلا في تأجيج مقاومته بشكل يفضي إلى جباية أثمان باهظة من المحتل الغاصب.