ذات يومٍ من أيام العام التاسع الهجري، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أحد المجالس التي تزدهي به وتزدان وقد حفَّ به أصحابه في أروع إجلال، كان على هامش المشهد فتى في العاشرة من عمره يسعى نحوهم في تريث، يكاد يتردد في سعيهِ وقد استأثر الهمُّ بوجهِهِ ولفَّهُ لفًا مستحكَمًا، ولما صار في قلب المشهد تلقاهُ صلى اللهُ عليه وسلم مبتسمًا مستحِثًا له على التَّـدَاني(1)، أسرَّ الفتى في أذن النبي حديثاً تغيرَ له وجهه الشريف، ثم أمر أحد أصحابه أن يدعو له الْجُلَاسَ بن سُوَيْد.
كان الفتى هو عُمَير بن سعد بن عُبَيد الأنصاريِّ(2)، رحل أبوهُ إلى ربه ولم يترك له مالًا، فجعل يتجرَّعُ كأس اليتمِ ومرارة الفاقةِ، حتى تزوج الْجُلَاس بن سُوَيد(3) بأمه.
ومضت الأيامُ بعميرٍ رخيَّة وهو يتقلب في أَكْناف(4) زوج أمه الجُلَاس ويدور في أَعْطاف(5) يسارهِ وغناه.
وذات يوم سمع الفتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزو الروم في تبوك ويأخذ للأمر أُهْبَته ويُعِدُّ له عُدَّتهُ، ورأى المسلمون يُلَبُّون دعوة نبيِّهم ويجودون لتجهيز الجيش حسبما تتيح لهم قدراتُهم، وراعَهُ(6) أنَّ زوج أمه الْجُلَاس يركن إلى التَّراخي رغم ثرائه، وروَّعَهُ(7) أن يُثبِّـط(8) الناس عنِ الخروجِ.. فراح يقصُّ عليه خبر أولئك الفقراء الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الخروج مع الجيش فيردَّهم لأنه لا يجد ما يحْمِلُهم عليه فيتولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا، وجعل يستثير همَّته ليخرج مع الجيش بعدما يتحمل نصيبه من مؤنتهِ(9)، فهتف الْجُلَاس في وجهِهِ: واللهِ لئن كان محمدٌ صادقًا فيما يقول فنحنُ شرٌّ من الحميرِ(10).
ذُهِلَ عميرٌ وبُهِتَ! إنَّ كلماتِ الْجُلَاسِ تنم عن حقيقته المستترة خلف نفاقِه، وتُبْدِي وجهه الطبيعي القبيح، التي يأباهما إخلاصهُ، ويلفظُهما نقاؤه، فهمس شجيًا أسيًا: يا عم تب إلى الله.
ولمَّـا تمادى الْجُلَاس، رفع عمير من عقيرته وأكمل: يا جُلاس، واللهِ إنَّك لأحبّ الناس إليَّ، وأحسنهم عندي أثراً، وأعزَهم عليَّ أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنَّك، ولئن سكت عنها لتهلكني(11)، ولأحداهما أشدُّ عليَّ من الأخرى(12).
ووجد عميرٌ نفسَهُ بين أمرين أَسْدَلا في نفسهِ أستارًا من الحيرةِ والقلق، ولكنَّه ما لبث أن اختار دينَهُ على دنياه، وعَمَدَ إلى النبي وأخبرهُ، فدعا صلى الله عليه وسلم الْجُلَاسَ وسألهُ عما قاله عميرٌ، فحلف بالله إنَّ عميرًا لكاذب وأنَّهُ ما تفوَّه بهذا قط.
وتقطعت أسبابُ البراءةِ بعميرٍ فلجأ إلى ربه: اللهمّ أنزل على رسولك بيان ما تكلَّمْتُ به.
وما كان اللهُ عزَّ وجلَّ ليذرَ من أراد العزَّةَ لدينِهِ مظلومًا، ولئن كان الجور في الأرض فإنَّ العدلَ في السماء، وهبطَ العدلُ من السماء: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (التوبة: 74).
هبط الوحى بالقول الفصل وحسم القضية بشكل تركن إليه الأفئدة، وتطمئن معه النفوس، وأخرج القضية من ضمير عمير إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، وضمائر جميع الموجودين وقتذاك، فارتعدَ الْجُلَاسُ وما فتئ يرددُ: قد قلت يا رسول الله، وقد عرض الله عليَّ التوبة، فأنا أتوب، أتوبُ يا رسول الله.
فقبل صلى الله عليه وسلم منه ذلك.
أما عميرٌ فلم يكن منذ وعى الحياةَ أسعد منه في تلك اللحظة ولا أقر عيناً.
ولمَ لا وقد أنصفه الله عز وجل في قرآن يُتلى إلى أن يرث الأرض ومن عليها؟
وتاب الْجلَاسُ، واعترف بذنبه، وحسُنتْ توبتُه، ولم ينزع عن خير كان يصنعه لعمير، فكان ذلك مما عُرِفتْ به توبته،
وكان يقول كلما ذكر عمير: جزاه الله عني خيرًا، فقد أنقذني من الكفر، وأعتق رقبتي من النار.
أما عمير فما زال بعد هذا في علياء، وراح يُكملُ مسيرتَهُ بذات البهاء، وعندما دخل في طورِ الشبابِ كانت الدنيا قد دخلت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي كان يتخيرُ ولاتَه تبعًا لدستورِ الزهدِ والحكمةِ، ولمَّا كان أهل حمص أكثر من غيرِهم تذمرًا من ولاتِهم أرسل لهم عميراً والذي لا يجدون في سيرتِهِ مطعنًا، وحاول عمير الاعتذار، ولكنَّ عمر ألزمَهُ بها، وسار عمير إليهم، وعمل فيهم بالعدل حتى عرفوه كأحدِهم، وظل عامًا لا يأتي أمير المؤمنين عمر خبر منه، فكتب إليه: أقبل بما جَبَيْت من الفيء(13).
فأخذَ عمير جرابَهُ وقصْعتَهُ، وعَصَاهُ وَقِرْبَتَهُ، وأتى المدينةَ ماشيًا، ودخل على عمر وقد تَبدَّت عليه تعابير مشاق السفر فشَحَب، واغبرَّ، وطال شعره.
فعاجله عمر سائلًا: ما شأنك يا عمير؟!
فرد سؤالًا بسؤالٍ: ما شأني يا أمير المؤمنين؟ ألست صحيح البدن، معي الدنيا؟
فظن عمر أنه جاء بمالٍ، ولكنه راح يطمئن عليه أولًا: هل جئت ماشيًا؟!
فأجاب عمير راضياً قانعًا: نعم.
فعاد عمر يسأل شفوقًا: أما تبرع لك أحد بدابة؟
فأجاب: ما فعلوا، ولا سألتُهم.
ثم سأله عمر: ما صنعت في الفيء؟
وعاد عمير يجيب: الذي جبيتُه وضعته في مواضعه، وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم.
فقال عمر لكاتبه: جَدِّد عهدًا لعمير على ولاية حِمْص.
فقال عمير: لا يا أمير المؤمنين، لن أعمل لك ولا لأحدٍ بعدك.
ثم استأذنهُ في الذَّهاب إلى قريةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بها أهلُه، فأذن له.
وأراد عمر أن يَسْتَوثقَ من أمر عمير فأعطى رجلًا من ثِقَاتِه مائة دينار، وقال له: انطلق إلى عمير بن سعد، وانْزل به كأنَّك ضَيفٌ، فإن رأيت أثر شيء(14) فأقبل، وإن وجدت حالًا شديدةً فادفع إليه هذه المائة.
وانطلق الرجل حتى بلغ عميراً، وأقام في ضيافته ثلاث ليال، فكانَ عمير يُخْرِجُ له كل ليلةٍ قُرصاً من الشعير لا يملكون غيره، ويطوون(15)، فدفع الرجل إليه الدنانير، وأعلمه أنها من أمير المؤمنين فقال عمير: لا حاجة لي بها، ردَّها على أمير المؤمنين!
وكما كانت امرأة عمير تعلم في زوجها ضيق يده، كذلك كانت تعلم سعة حدبه(16) على المسلمين سواء بسواء، فقالت له: خذها إن احتجت إليها، وإلا ضعها في مواضِعها.
بيد أنها ذكرته بِمَهْوَى فؤادِهِ، ومُشْتَهَى نفسِهِ، فأخذها، ثم خرج لساعته يَقْسِمها بين أبناء الشهداء.
وعاد الرجل إلى عمر فسأله: ماذا وجدت؟
فأجاب: وجدت حالًا شديدةً يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ماذا فعل عمير بالدنانير؟
قال: لا أدري، وما أظنّه يُبْقي لنفسه منها درهمًا.
فكتب عمر إليه يطلبه، فجاء، فسأله: ما صنعت بالدنانير؟
فقال: وما سؤالك عنها يا أمير المؤمنين؟ قدَّمْتُها لنفسي عند الله.
فأمرَ له عمر بطعام وثوبين، فقال: أمَّا الطعامُ فلا حاجة لي به، وأمَّا الثَّوبان فآخُذهما فإن أم فُلانٍ عارية(17).
فأخذهما ورجع، ولم يلبثْ أن مات رضي اللهُ عنه، وما نحسب روحه إلَّا وقد ارتقت في زفة ملائكية إلى مثوبتها وأجرها، وكأننا بالفاروق وقد اعتَصرَ فؤاده نَعْي عمير، وجعل يسترجع، ثم قال: وددت أن لي رجالًا مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين.
وكان رضي الله عنه يَذْكُرَهُ ويقولُ: كان عميرٌ نسيجاً وحدَه.
وكان يقالُ: زهادُ الأنصارِ ثلاثةٌ أبو الدرداءِ، وشدادُ بنُ أوسٍ، وعميرٌ بنُ سعدٍ(18).
فرضي الله عن عمير بن سعد وعن أصحابه الذين أقاموا الدين، وثبتوا على العهد حتى أتاهم اليقين.
______________________
(1) الاقتراب.
(2) الإصابة (6051)، أسد الغابة (4076).
(3) الإصابة (1179)، أسد الغابة (769).
(4) في رعايته وعنايته.
(5) يعني: جوانب.
(6) راعه: لفت نظره بشدة.
(7) روعه: أفزعه.
(8) يعوقهم، ويحاولهم تأخيرهم.
(9) تكاليف تجهيز الجيش.
(10) أسد الغابة (4076).
(11) يعني: تهلك دينه.
(12) انظر: الدر المنثور للسيوطي (7/445).
(13) بما حصلت من الضرائب، والفيء هو ما أخذ من الكفار بغير حرب.
(14) يعني: رأيت أثر مال وثراء.
(15) يبيتون جياعاً.
(16) حَدِبَ عليه: عطف وحنا عليه.
(17) يعني زوجته، سير أعلام النبلاء (214) بتصرف يسير.
(18) انظر: سير أعلام النبلاء (214)، الإصابة (6051).