يقول د. يوسف القرضاوي: إن الإسلام في تشريعاته يعامل الأسرى معاملة إنسانية، تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم، وتصون إنسانيتهم، ويعتبر القرآن الأسير من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية، مثل المسكين واليتيم في المجتمع، يقول تعالى في وصف الأبرار المرضيين من عباده، المستحقين لدخول جنته، والفوز بمرضاته ومثوبته: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً {10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (الإنسان).
ويخاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في شأن أسرى بدر فيقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنفال: 70)، فهو يأمره أن يخاطبهم بما يلين قلوبهم، ويجذبهم نحو الإسلام.
أما الأحكام المتعلقة بالموقف مع الأسرى، وماذا يجب أن نصنع معهم؟ فقد نص القرآن على ذلك في آية صريحة من آياته في السورة التي تسمى سورة “محمد” أو سورة “القتال”، وهي قوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4).
لا أسر قبل إثخان العدو
ومن التعاليم الحربية التي أدخلها الإسلام في نظم الحرب ألا يتم الأسر للأعداء في المعركة قبل “إثخان العدو” ومعنى “إثخانه”: إضعافه وكسر شوكته، حتى لا يعود لقتال المسلمين مرة أخرى.
وفي هذا جاء قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 67).
فلا ينبغي أن يكون هَم المقاتلين من أول الأمر أسر العدو، بل يجب أن يكون الهدف الأول هو إضعاف قوتهم، وتحطيم شوكتهم، ولا سيما أن الأسر فيه مظنة ابتغاء الدنيا بالفداء بالمال.
وبعد تحقق هذا في الإثخان والإضعاف يسوغ للمقابل أن يأسر ما شاء، بل هو مأمور بهذا “فشدوا الوثاق”؛ إذ ليس سفك الدماء هدفاً في ذاته من أهداف الإسلام، فليس في الإسلام ما في التوراة من وجوب ضرب جميع الذكور بحد السيف، إذا تمكنوا منهم، فلا مجال لأسر ولا شد وثاق، وماذا بعد شد الوثاق؟ أي ما بعد الأسر؟ ما حكم هؤلاء الأسرى؟
القرآن هنا يخيّرنا بين أمرين في التعامل معهم، وهما: المنّ، والفداء، ولم يذكر غيرهما.
ومعنى “المن”: إطلاق سراح الأسير لوجه الله تعالى؛ لنتألف قلبه، نحبب إليه الإسلام، حيث فككنا أسره دون مقابل.
ومعنى “الفداء”: أن نفدي الأسرى بأسرى مثلهم في العدد أو أقل أو أكثر، حسب المصلحة، فرب أسير منا له وزن وقيمة، نفديه بأكثر من أسير لنا عندهم، والعكس يحدث أيضاً.
وقد يكون الفداء بمال، كما فعل الرسول والصحابة معه في أسرى “بدر” حيث طلبوا الفداء بالمال لمسيس حاجتهم إليهم وقدرة أهليهم من قريش عليه.
هل يسترق الأسير أو يُقتل؟
وهناك حكمان آخران ذكرهما الفقهاء يتعلقان بأسرى الأعداء، وهما: الاسترقاق، والقتل، وهذان الحكمان لم يذكرا في القرآن كما ذكر المن والفداء، وإنما أخذ من السُّنة النبوية ومن عمل الصحابة والخلفاء الراشدين.
جاء عن الحسن البصري: أنه لا يحل قتل الأسير صبراً، وإنما يمنّ عليه أو يفادى. (أخرج ذلك الطبري عنه، وأبو جعفر النحاس).
والذي أرجحه من استقراء النصوص، ورد بعضها إلى بعض: أنه لا يجوز قتل الأسير العادي، وإنما يعامل وفق آية سورة “محمد” التي تحدد كيفية التعامل مع من شددنا وثاقهم من الأسرى؛ (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء).
ولكن يستثنى من ذلك من نسميهم في عصرنا “مجرمي الحرب” الذين كان لهم مع المسلمين ماض سيئ لا يمكن نسيانه، مثل: عقبة بن أبي معيط، وابن خطل، ويهود بني قريظة.. وأمثالهم، فهؤلاء يعامَلون معاملة استثنائية وتطبق عليهم آية سورة “التوبة”: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة: 5)؛ أي: خذوهم أسرى؛ للقتل أو المن أو الفداء.. والله أعلم.
العدد (2082)، ص70-71 – جمادى الآخرة 1436ه – إبريل 2015م