حُكيَ أَن ملكاً من اليونان قَامَ من مَنَامه فِي بعض الغدوات فَأَتَتْهُ القيمَة على ملابسه بثيابه فلبسها ثمَّ ناولته المرْآة فَنظر فِيهَا وَجهه فَرَأى فِي لحيته شَعْرَة بَيْضَاء فَقَالَ لَهَا: هَات المقراض فَأَتَتْهُ بِهِ فَقَصَّهَا، فتناولتها الْجَارِيَة وَكَانَت حكيمة لَبِيبَة عَاقِلَة فَوَضَعتهَا فِي كفها وأصغت إِلَيْهَا بأذنها وَالْملك ينظر إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تصنعين؟ قَالَت: أسْتمع مَا تَقول هَذِه الشعرة الَّتِي عظم مصابها بمفارقة الْكَرَامَة لما سخطها الْملك فأقصاها.
فَقَالَ الْملك: وَمَا الَّذِي سَمِعت من قَوْلهَا؟ فَقَالَت: زعم قلبِي أَنه سَمعهَا تَقول كلَاماً لَا يجترئ عَلَيْهِ لساني خوفًا من سطوة الْملك.
فَقَالَ لَهَا الْملك: قولي مَا شِئْت.. فأنت آمِنَة إِن لَزِمت قانون الْحِكْمَة، فَقَالَت: إِنَّهَا تَقول: أَيهَا الْمُسَلط إِلَى أمد قصير إِنِّي كنت قد علمت مِنْك الْبَطْش بِي والاعتداء عَليّ إِذا ظَهرت على ظَاهر بشرتك، فَلم أظهر فِي وقتي هَذَا حَتَّى عهِدت إِلَى أخواتي من بعدِي فِي الْأَخْذ بِثَأْرِي مِنْك إما باستيصالك وَإما بتنغيص لذتك وتنقيص قوتك حَتَّى تعد الْمَوْت رَاحَة لَك.
فَقَالَ لَهَا الْملك: اكتبي كلامك فكتبته لَهُ فِي لوح فَجعل يتدبره سَاعَة ثمَّ نَهَضَ مبادراً فَأتى هيكلاً من هياكلهم فَنزع عَنهُ تاجه وَثيَاب الْمُلُوك وتزيا بزِي النساك وَبلغ ذَلِك أهل مَمْلَكَته فبادروا إِلَيْهِ وطالبوه بِأَن يعود إِلَى ملكه وتدبيره، فَامْتنعَ عَلَيْهِم وسألهم إقالته وتمليك غَيره فامتنعوا عَلَيْهِ، وهموا بِأَخْذِهِ قهراً فَاصْطَلَحَ أهل الهيكل مَعَهم على أَن يَتْرُكُوهُ فِي الهيكل يعبد ربه ويستنيب غَيره فِيمَا يستناب فِي مثله من الْأُمُور ويلي هُوَ غير ذَلِك من الْأُمُور الْعِظَام بِنَفسِهِ مَعَ إِقَامَته فِي الهيكل، فَلبث على هَذَا الْأَمر حَتَّى قَبضه الله الله تَعَالَى إِلَيْهِ.
_______________________________
من كتاب «المنهج المسلوك في سياسة الملوك».