تُعدّ مدينة القدس (بيت المقدس في المصادر الإسلاميّة) أبرز حواضر بلاد الشام التاريخيّة، وهي واحدة من عواصم الحضارة الإسلامية، فقد شهدت المدينة اهتمامًا من الدول الإسلامية المتعاقبة، إن من حيث العمارة والبناء، أو من حيث زيارتها والسكنى بها، وهو اهتمامٌ تعزز بسبب ميراث التشوق النويّ لمدينة القدس، فهي أولى القبلتين، وفيها ثالث المساجد التي لا تُشدّ الرحال إلا إليها، وهي فضائل وخصائص جعلت القدس قرينة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وإحدى المدن المقدسة في الإسلام، وهو ما جذب إليها العلماء والصالحين، حتى غدت محطة لطلاب العلم في رحلاتهم في أرجاء العالم الإسلام، وكان في قلب هذه الحركة المعرفية الدؤوبة المسجد الأقصى المبارك، الذي شهد حركةً علمية بدأت منذ بناء المسجد بعد الفتح العمري، واستمر في العصور الإسلامية المتلاحقة.
ونتناول في هذه السلسلة شذرات من التاريخ العلمي والمعرفي لمدينة القدس، وأهمّ من برز من المدينة من أعلام الأمة، الذين أسهموا في بناء صرح حضارتنا المجيدة، ونبدأ في مقالنا الأول بالجيل الفريد، الذين كانوا منارات عبادة وعلمٍ وجهاد في القدس خاصة وبلاد الشام عامة.
وصية نبوية وتطبيق من الجيل الفريد
شكلت مدينة القدس محطة للعديد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد استقر في المدينة عددٌ منهم، ومنهم من شارك في فتوح الشام، ومنهم من جاء إليها بقصد العبادة والمجاورة، وقد حضّ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على السكن في بيت المقدس، ففي الحديث النبوي عَنْ ذِي الأَصَابِعِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنِ ابْتُلِينَا بِالْبَقَاءِ بَعْدَكَ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكَ ذُرِّيَّةً يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ إِلَيْهِ»؛ يَعْنِي مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. (رواه أحمد).
ونتيجةً لهذه التوجيهات النبوية، سكن في القدس عددٌ كبيرٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا فيها، ففي الحديث المرفوع عن يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْس قَال: «شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَة بَيْت المَقدِس فَجَمَّعَ بنَا فَنَظَرْتُ، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِد، أَصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم»، ولم تذكر الرواية إن كان معاوية حينها أميرًا على بلاد الشام، أو خليفة، ولكنها في الحالتين وقعت بعد فتح بيت المقدس بزمن، وعمارة المسجد الأقصى فيها، وتُشير إلى أن غالبية من ينتظر صلاة الجمعة في الأقصى المبارك هم من الصحابة رضوان عليهم، ما يؤكد أهمية المدينة في تلك المرحلة المبكرة من التاريخ الإسلامي، وتحولها إلى نقطة جذبٍ للجيل الذي رباه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أسسوا النهضة العلمية في القدس كما سيمر معنا.
أعلام الصحابة في بيت المقدس للجهاد والعبادة والعلم
جذبت القدس عددًا كبيرًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز الصحابة الذين زاروا المدينة في أثناء الفتوح الإسلامية لبلاد الشام، ومن ثمّ شهدوا فتحها على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قائد فتوح بلاد الشام أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأنس بن مالك رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وتُشير الروايات بأنه قدم مع عمر إلى الجابية، وبلال بن رباح رضي الله عنه الذي أذّن في المسجد الأقصى بعد فتح المدينة، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
أما الصحابة الذين زاروا بيت المقدس للعبادة فهم كثر، ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي كان يأتي يتعبد أيامًا وليالي في المسجد الأقصى، وأم المؤمنين صفية بنت حيي، زارت بيت المقدس وصلت في المسجد الأقصى المبارك، وتعبدت في أماكن عدة من المدينة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الذي زار بيت المقدس أكثر من مرة، وتُشير الروايات إلى أنه أهلّ بعمرة من المسجد الأقصى في عام 37هـ، وقد شوهد ابن عمر مع عبدالرحمن بن محيريز، وأبي أمامة، وواثلة رضي الله عنهم ببيت المقدس ومنهم أيضًا عقبة بن عامر الجهني، وأبو ريحانة الأزدي.
وكثيرٌ من الصحابة كانوا إلى جانب المشاركة في الفتوح استقروا في بيت المقدس حينًا وعلموا الناس فيها، وأبرزهم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقد كان قائد فتح قيسارية، واستقرّ في بيت المقدس زمنًا، وفي مسجدها كان يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتتلمذ عليه الكثير من التابعين. ومثله عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي شارك في فتوح بلاد الشام، ومن ثم استقرّ في بيت المقدس، وكان ممن أرسلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليعلموا الناس القرآن، وهو أوّل من ولي قضاء فلسطين، وولي قضاء القدس نحوًا من 17 عامًا.
وممن زار بيت المقدس للعبادة وتعليم الناس جمهرة من الصحابة ومنهم أبو هريرة، وعوف بن مالك الأشجعي، وشداد بن أوس، الذي استقر في بيت المقدس وبها توفي، وغيرهم الكثير، ومن التابعين أويس القرني.
وفي عصر الصحابة الكرام تحول المسجد الأقصى إلى منارة معرفية وعلمية، فبعد تحديد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكان المسجد وأمره بناء المسجد القبلي في موقعه اليوم، عيّن من يعلّم القرآن في رحاب «الأقصى»، وأول من تولى هذه المهمة في القدس هو معاذ بن جبل رضي الله عنه، ومن بعده عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وممن درس على يد الصحابيين معاذ وعبادة رضي الله عنهما وغيرهما من علماء الصحابة عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الذي يعدّ شيخ فلسطين في تلك المرحلة، وأصبح من فقهاء القدس وفلسطين فيما بعد، وتتلمذ على يديه الكثير من التابعين في بلاد الشام عامة وفي دمشق على وجه الخصوص، ومنذ تلك الحقبة بدأت الحياة الفكرية في فلسطين بالازدهار خاصة بعد إقامة العديد من الصحابة في مدنها، فانتشر فيها القراء وأهل الحديث، والفقه، والمحدثون، والفقهاء.
قبور الصحابة في القدس جزء من هوية المدينة
تضم مقابر القدس عددًا من الصحابة الذين استقروا في فلسطين والقدس، إذ يضم السور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك، الواقع ضمن مقبرة باب الرحمة، عددًا من قبور الصحابة الذين أوردنا ذكرهم في المقال، وأهمهم الصحابيين الجليلين عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهما. ومن الصحابة الذين دفنوا في مقابر القدس، نذكر منهم:
عبادة بن الصامت رضي الله عنه: من الصحابة الذين أرسلهم عمر بن الخطاب بعد فتح الشام لتعليم الناس القرآن، توفي عام 34هـ، ودفن في مقبرة باب الرحمة قرب أسوار المسجد الأقصى.
شداد بن أوس بن المنذر الأنصاري رضي الله عنه: من الصحابة الذين سكنوا في مدينة القدس، كان كثير الورع والعبادة، توفي عام 58هـ، دفن في مقبرة باب الرحمة على مقربة من سور المسجد الأقصى.
أبو ريحانة الأزدي رضي الله عنه: شمعون بن يزيد، كان من زهاد الصحابة، شارك في فتح بلاد الشام، وسكن في مدينة القدس، وكان يقضي للناس في المسجد الأقصى، وتوفي في القدس ودفن فيها.
أبو أبيّ بن أم حرام رضي الله عنه: عبد الله بن عمرو بن قيس الأنصاري، أمه أم حرَام بنت مِلحَان، زوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، وهو آخر من مات من الصحابة في فلسطين.
مسعود بن أوس الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه: أبو محمد النجاري، من الصحابة الذين سكنوا بيت المقدس، توفي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفن في مدينة القدس.
ذُو الأَصابِع الجُهَنِي رضي الله عنه: وقيل التَّميمي والخُزَاعِي، من الصحابة الذين سكنوا القدس، ودفن فيها.
سلامة بن قيصر الحَضْرمِي رضي الله عنه: وقيل اسمه “سلمة”، سكن مصر، ثم وَلِي على القدس ومات بها.
عبد الله بن أبي الجَدْعَاء رضي الله عنه: عبد الله بن أبي الجَدْعَاء التَّمِيمِيّ، له صحبة سكن بيت المقدس.
فيروز الدَّيْلَمِيّ رضي الله عنه: اليَمَانِي الحِمْيَرِيّ، يعود أصله إلى فارس، قاتل الأسود العَنْسِيّ الكذاب الذي ادعى النبوة، سكن مصر، ثم تحول إلى بيت القدس ومات بها.
واثِلَة بن الأَسْقَع رضي الله عنه: بن كعب بن عامر اللَّيثِيّ، أسلم سنة تسع، شارك في فتوح الشام، سكن قرب دمشق ثم تحول إلى القدس ومات فيها، وتوفى في سنة 83هـ وهو ابن مائة وخمس سنين.
تؤكد المعطيات السابقة إلى الأهمية المبكرة لمدينة القدس، وكيف شكلت محطة محورية للصحابة رضي الله عنهم، الذين قصدوا مجاهدين وفاتحين، أو معلمين وعباد، وهذه الأهمية التي ظهرت في العصر الإسلامي الأول، ستستمر بالتزايد مع تطور الحضارة الإسلامية، وازدياد العلوم الإسلامية، وظهور العديد من العلماء في مختلف العلوم الإسلامية المتصلة بالشريعة أو بالعلوم التجريبية، وسنمرّ على ذكر العديد منهم في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.
_________________________________________
1- مسند الإمام أحمد.
2- سنن أبي داود.
3- ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار ابن حزم، بيروت ط1،
4- أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة، دار الوطن للنشر.
5- محمد بن شهاب الدين السيوطي، إتحاف الأخصّا بفضائل المسجد الأقصى، القسم الثاني.
6- أسامة الأشقر، موسوعة الصحابة في فلسطين، مؤسسة فلسطين للثقافة،
7- عامر جاد الله أبو حسنة، الحركة العلمية في القدس من الفتح الإسلامي 15 حتى 132 هـ، مجلة حوليات آداب عين شمس.