كشف د. يوسف القرضاوي عن ملابسات ظهور ميلاد أول قناة فضائية إسلامية في العالم العربي والإسلامي؛ قناة “اقرأ”، وذلك في افتتاح مؤتمر إسلامي بالقاهرة بعنوان “نحو فقه معاصر لإعلام متميز”.
وأوضح القرضاوي أنه طلب من رجل الأعمال المعروف الشيخ صالح عبد الله كامل الذي له باع في مجال دعم الاقتصاد الإسلامي على مستوى التأصيل الفقهي والعلمي أن يكون له الباع نفسه في مجال التأصيل للإعلام الإسلامي من خلال مؤتمر إسلامي دولي يعقد سنوياً، وتجسيد هذا الإعلام في قناة فضائية، فكانت هذه القناة التي ستبدأ بثها في يناير القادم 1999م.
وقد أكد القرضاوي أن الفقهاء لا يمكن أن يقفوا عاجزين أمام التحدي الإعلامي ويدفنوا رؤوسهم في الرمال، وعليهم أن يواجهوا مشكلات العصر بفقه جديد وفهم جديد للتكيف مع تطورات العصر في ضوء ضوابط الشرع، حيث يتسع الفقه الإسلامي لإيجاد حلول لجميع معضلات الحياة بما يتمتع به من مرونة وسعة.
وأوضح أن الإسلام يريد إعلاماً حياً شاملاً من دراما ومسلسلات وأفلام ومسرحيات وبرامج علمية ومهنية وترويحية مختلفة كبدائل كاملة للإعلام الغربي اللاديني الموجَّه ضد المسلمين ليفسد عليهم دينهم، وسندهم في ذلك الفقهاء والفقه المعاصر المعتدل المرن.. الفقيه الذي يمتاز بسعة الأفق في معرفة الدين والحياة، ويفقه النصوص في ضوء المقاصد، كما يفقه طبيعة الواقع، فضلاً عن تمتعه بالوسطية والاعتدال والورع دون تفريط أو إفراط، مؤكداً رفض الإسلام للإفراط والتفريط في قضية الإعلام، فلا يقبل بالمنع والمقاطعة ودفن الرؤوس في الرمال، كما لا يقبل التهافت على المحرمات التي يبثها الإعلام.
وقد كانت المحاضرة الرئيسة للدكتور يوسف القرضاوي بعنوان “رؤية فقهية حول الواقع الإعلامي”، تناول فيها إشكاليات عمل المرأة في مجال الأعمال الدرامية والفنية، ومشروعية التمثيل، وموقع الترويح في الفن الإسلامي، وملامح الإعلام الإسلامي المطلوب خلال القرن الحالي وأهميته، ودور الفقه في التغلب على هذه الإشكاليات.
وأوضح أن الإعلام أصبح جزءاً من الحياة والواقع، وأنه بأدواته الحالية ليس له حكم في ذاته، ووسائل الإعلام المختلفة حكمها حكم المقاصد التي تستخدم من أجلها، سواء في الخير أو الشر، مشيراً إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين الإعلام الإسلامي المتميز، والإعلام الديني الذي يعد جزءاً من الإعلام الإسلامي.
وأشار د. القرضاوي إلى أن اشتراك المرأة في التمثيل أمر ضروري لا بد منه، لأننا لا نستطيع أن نخرج المرأة من الحياة، وأي عمل درامي هادف لا توجد فيه المرأة عمل غير منطقي، ودليلنا على ذلك أن القصص القرآني منذ آدم عليه السلام حتى الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام لم يهمل وجود المرأة فيه، حيث آدم وحواء، ونوح وامرأته، وكذلك لوط وزوجته، ثم الخليل إبراهيم وزوجتيه، ثم قصة ابني آدم، وموسى منذ ولادته ووجود أمه وأخته وامرأة فرعون وابنتي شعيب وحوارهما مع نبي الله موسى، ويوسف وامرأة العزيز وسورة كاملة تحكي تفاصيل قصة احتلت فيها المرأة دوراً رئيساً، ثم سيدنا عيسى وجدته وقصة والدته مفصلة، وحتى قصة زيد بن حارثة مع زينب بنت جحش، حيث ذكر القرآن هذه القصص كلها وفيها المرأة بدورها الحيوي، فكيف بنا نغلق الباب أمامها ونخرجها من الحياة؟!
وأوضح القرضاوي أن اشتراك المرأة في التمثيل إشكالية تحتاج للاجتهاد والتغلب عليها لإيجاد حل لها، وهذا الحل ليس بفقه “المنع” الذي لا يحل مشكلة رغم سهولته، وترديد الفتوى بأن ذلك حرام، فتبقى العُقد كما هي، والنتيجة أن ينطلق الناس بدوننا، وليس من الحكمة أن نغلق الأبواب فيدعنا الناس ونقف وحدنا، فلا بد من أن نتبنى فقه التيسير ونُعمل عقولنا في فقه جديد نجتهد لعصرنا كما اجتهد فقهاؤنا القدامى لعصرهم، ولو كان الأئمة المجتهدون يعيشون في عصرنا اليوم لتعاملوا مع هذه القضايا بصورة مختلفة وفق هذه القواعد الفقهية بأن عموم البلوى من المخففات، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمضايقات تجلب التيسير دون افتئات على محكمات النصوص.
ويقول القرضاوي: ما المانع أن تدخل المرأة مجال التمثيل الجاد الملتزم بضوابط الشرع دون تبذل أو سفور؟ ويتعاون أهل الفقه وأهل الاختصاص للوصول إلى الهدف؛ لأنه من غير المقبول إنشاء قصة خالية من المرأة، فهذا ضد الواقع، ولاشتراك المرأة في التمثيل عدد من الضوابط، أهمها:
– أن يكون اشتراكها ضرورياً.
– أن تظهر بلباس الإسلام ولا تضع المساحيق.
– أن يراعي المخرج والمصور عدم إبراز مفاتنها والتركيز عليها في التصوير.
– أن تتفوه بالكلام الحسن وتبتعد عن الفاحش البذيء، ونبتعد عن مشاهد الانحراف والمجون في أعمالنا ولا نتعرض لها بإسهاب أو تفصيل، وهذه أمور يمكن الالتزام بها، ويوجد والحمد لله عدد من الفنانات الملتزمات بالإسلام يقبلن بهذه الشروط ويمكن التعاون معهن، وقد التقيتهن ورحبن بذلك.
ويستطرد القرضاوي ليؤكد أن التمثيل في حد ذاته ليس حراماً، حيث اعتمد القرآن على ذلك الأسلوب التمثيلي في قصص عدة، منها قصة سليمان عليه السلام والنملة، وقصته أيضاً مع الهدهد، وقصة الغرب وابني آدم، وإسماعيل عليه السلام والكبش.. وغيرها، ومن غير المعقول أن نحرّم التمثيل أو التصوير أو غيرها من مقتضيات العصر، فالفقه إنما هو الرخصة من ثقة، كما قال سفيان الثوري، ولا يعني التيسير والترخيص لي أعناق النصوص، أو تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله، ولكن علينا أن ندرك أن الإسلام جاء لجميع شعوب الأرض وليس لفئة معينة من الناس، والفتوى اليوم تتوجه لأكثر من مليار وربع المليار مسلم، وينبغي أن نتبنى فقه التيسير، ومن رحمة ربنا أن أغلب الأمور المختلف فيها بين الفقهاء ليست قطعيات، حيث اختلف فيها الصحابة والتابعون كالغناء، والموسيقى، على سبيل المثال، وعلينا أن ندرك أنه كما أن الرياضة تغذي الجسم، والعبادة تغذي الروح، والثقافة تغذي العقل، فإن الفن يغذي الوجدان، وقد راعى الرسول ذلك فعلم أن الأحباش يحبون اللعب فأفسح أمامهم المجال ليلعبوا بحرابهم في مسجده، وسمح لزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تتفرج عليهم، كما علم أن الأنصار يحبون اللهو فأوصى عائشة أن تذهب إلى عرس إحداهن ومشاركتهن أفراحهن ولهوهن، حيث قال: “هلا كان معهم اللهو.. إن الأنصار قوم يحبون اللهو”.. إلخ.
ويضيف أن المفتي يتحرك في واقع الناس ويدركه، ولذلك لا ينبغي أن يتشدد على الناس فيما قد يكون لهم فيه مخرج، ومسألة سد الذريعة مطلوبة وهي قاعدة شرعية، ولكنه إذا بولغ فيها تأتي بنتيجة عكسية، ويكون شأنها شأن فتح الذريعة.
ويؤكد أن الإسلام لا يمانع في الترويح الذي هو أحد أهداف العمل الإعلامي الهادف الجاد، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحنظلة: “يا حنظلة، ساعة وساعة”، وورد في الأثر: “روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أكرهت عمت، وإن القلوب تمل كما تمل الأبدان”، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح فلا يقول إلا حقاً، ولا مانع من الترويح من خلال الموسيقى والتصوير والغناء والموسيقى التصويرية والتمثيل، ولكن بضوابط.
_________________
العدد (1319)، 16 جمادى الآخرة 1419هـ / 29 سبتمبر 1998م، ص44-45.