تدور التقنيات الحداثية التي تتناول تجديد التراث على محاور، أهمها: «التسييس»، و«التورخة»، و«التوفيد»، والمشكلة ليست فقط في أصل هذه التقنيات وما تدور عليه، وإنما تكمن بصورة أبشع في المغالاة، فلو أنّهم توسطوا فلربما قبل منهم بعض ما يطرحون، فإنّ المبدعين من العلماء عالجوا كثيراً من القضايا ببعض هذه التقنيات ولكن باعتدال وتوسط ودون جور على عموم الشريعة وبقائها وهيمنتها.
ولقد حظي «التسييس» الذي تمثل في اتهام الفقه الإسلاميّ بأنّه من لدن الأئمة الأربعة وعصر التدوين تماهى مع الأيديولوجيا السياسية للدول الإسلامية التي استبدت بالملك وحادت عن طريق الخلافة كالأموية والعباسية.
فهذا محمد عابد الجابريّ يوجز ويُلْغِز: «إنّ تنظير الخلافة والتشريع للحكم كان يتطلب وجود قواعد للتفكير تستطيع أن تبرر الواقع وتقنّنه بإضفاء الصبغة الشرعية عليه، وهذه القواعد لم تتوفر للعقل العربي بشكل مضبوط إلا مع الشافعيّ»، هكذا يتقرر الأمر بالمجازفة والتجديف! ويأتي مهندس الأدلجة نصر حامد أبو زيد ليبسط القول: «يتبين مما سبق أنّ الشافعيّ وهو يؤسس عروبة الكتاب بالمعنى والدلالات السابقة كان يفعل ذلك من منظور أيديولوجي ضمني في سياق الصراع الشعبوي الفكري الثقافي، من هنا نفهم ما انتهى إليه من تحديد لأنماط الدلالة يعتمد على تصنيف المتلقين لا على رصد آليات إنتاج الدلالة في بنية النص ذاتها»، وفي معرض الاعتراض على تأسيس الشافعيّ لحجية السُّنة بعد الكتاب ينطلق في هذيانه على هذا النحو المقرف: «ومعنى ذلك أنّ تأسيس مشروعية السُّنة بناء على تأويل بعض نصوص الكتاب -مثل تأويل الحكمة بأنّها السُّنة وتأويل العصمة بأنّها انعدام الخطأ مطلقاً- لم يكن يتم بمعزل عن الموقف الأيديولوجي المشار إليه».
أمّا حسن حنفي فيعظم المعتزلة ويقدم مذهبهم على أهل السُّنة، ويَرُدُّ أمر خذلانهم إلى العامل السياسي؛ فيقول: «وإذن فالأصول الخمسة عند المعتزلة كانت في ابتداء القول بها التعبير اللاهوتي عن المعارضة السياسية لدولة الجبر والطغيان»، ونسي وأراد أن ينسي الجميع أنّ دولة الجبر والطغيان هذه لم تتورط في خصومة فكرية بين الفرق إلا على أيدي المعتزلة الذين تسللوا إلى عقل الخلفاء الثلاثة المتتابعين: المأمون، والمعتصم، والواثق، وأقنعوهم بأنّ أهل سُنة زنادقة بإصرارهم على القول بأنّ القرآن كلام الله!
والواقع أنّ الحداثيين العرب مجرد أبواق لأقطاب الاستشراق، فجميع المستشرقين انساقوا من قبل في منحدر الحرب على الشريعة مع فكرة «التسييس» هذه، فعلى سبيل المثال هذا كبيرهم جولد تسيهر على مدى صفحات من كتابه البائس «العقيدة والشريعة في الإسلام» في سياق مزاعمه بتأثر الفقه بالتطورات السياسية، يزعم أنّ العباسيين أرادوا تأسيس فقه يجعل منهم ومن حكمهم ممثلاً للدين، وعلى هذا الخط البائس وهذا الطريق المشؤوم مضى العلمانيون والحداثيون من العرب، فيا للعجب!
وقد يكون مناسبًا الردُّ عليهم بمثل ما ردّ به جورج طرابيشي عندما قال: «وبديهيٌّ أنّ البراءة الأيديولوجية في الدراسات العلمية في حقليّ الإنسان والتاريخ مستحيلة، وباستثناء بعض المقاربات التقنية البحتة؛ فإنّه يتعذر ألا تكون الدراسات التراثية مسكونة بهاجس أيديولوجي، ولكن تضخم هذا الهاجس -من جهة- أو طغيانه اللاشعوريّ على المنهج وتحكمه اللاواعي بكيفية تطبيقه ومداورته، وتأثيره -من جهة أخرى- في تقييم النتائج التي تم الوصول إليها بواسطة ذلك المنهج المخترق، هما في رأينا العلة الأولى للانحرافات الأيديولوجية في الدراسات التراثية الحريصة على تقييد نفسها بصفة العلمية».
وقد يكون مناسبًا كذلك الردُّ عليهم بمثل ما ردّ الشيخ إبراهيم السكران، عندما قال: «ويلاحظ القارئ الهادئ أنّ هذه التقنيات التفسيرية الباحثة عن دور السلطة في تشكيل النص لم يكن وهجها بسبب عبقريتها، وإنما كان وهجها بسبب تطرفها، فدور السلطة والمال والجنس وغيرها من الدوافع في تشكيل النص والتاريخ هي معطيات معروفة مسبقاً وليست جديدة، وإنما الذي صنع لها هذا الدوي والزخم هو التطرف في جعلها العامل الحاسم»، لكنّ هذه الردود على وجاهتها ليست كافية.
أجل.. إنّ هذه الردود مع وجاهتها ليست كافية ولا شافية؛ ليس لضعف فيها ولا تهافت، ولا لقوة في الشبهة أو رواج لما تنطوي عليه من مغالطات، وإنّما لأمر آخر لا علاقة له بالطروح المتقابلة، وهو أنّ المسار السياسيّ عندما وقع فيه الانحراف عن المنهج الإسلاميّ لم يستطع أن يسحب النصّ وراءه في طريقه الذي انحدر إليه، ومن الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن نقول: إنّ السياسة استطاعت أن تطوع الفقه لها، إلا بادعاء أنّ النصوص ذاتها تحمل هذه الصلاحية، وهذا من أمحل المحال، ولا يدَّعي هذا أحد إلا أُلْقِمَ في فِيهِ ألفَ حجر.
فباستثناء أحاديث السمع والطاعة وحديث الأئمة من قريش برواياته المختلفة؛ تأتي النصوص كلها من القرآن والسُّنة في اتجاه مضاد للدكتاتورية والاستبداد وما يطرأ على السياسة من فساد، فلو أنّنا استعرضنا نصوص القرآن التي تتجه بثقلها كله نحو مقاومة الظلم ودفع الفساد والكفر بالطاغوت كله، ونصوص السُّنّة التي غلب عليها بصورة كبيرة وظاهرة روح المقاومة للظلم والفساد، التي كثر فيها الإلزام بالنصح للحكام والأخذ على أيدي الظلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتأكد لنا أنّ نصوص السمع والطاعة وردت استثناء من السياق العام لضبط الحراك وإحداث التوازن.
صحيح أنّ بعض السلف أكثر من سوق أحاديث السمع والطاعة في أزمان الفتن والملاحم التي اجتاحت العالم الإسلاميّ وهددته بالفناء، وجعلت السيف مسلولاً على المسلمين مغمودًا على الكافرين، لكنّ ذلك لم يأت في سياق الانسياق مع السياسة، وإنّما في سياق السباق بين البقاء والفناء؛ فكان اجتهادهم منصبًّا على اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين، ولم يكن إذَّاك شر ولا ضرر أشد من تقاتل المسلمين واحتدام الفتن بينهم، حال كونهم في مهد التمكين، والعدوُّ متربصٌ بهم.
وصحيح كذلك أنّ بعض العلماء في مرحلة متأخرة عن عصر التدوين توسعوا في تنزيل فقه الأوائل واجتهاداتهم على واقع كان قد بعد كثيرًا عن الواقع الذي أفتى فيه الأوائل، لكنّ ذلك جاء بعد أن استقرت سفينة العلم وأخذت وجهتها؛ لذلك جاءت أغلب التنزيلات الخاطئة خارج دواوين الفقه المذهبية الأصلية، فلم تؤثر على وجهة الفقه العامّة، فأمّا الوجهة العامّة للفقه من لدن الأربعة الكبار فكانت المفاصلة التي تصل لحد الخصومة مع الدولة والسلطة، والمشهور عن الفقهاء الأربعة أنّهم كانوا في خصومة مع السلطة السياسية، وجميعهم أوذوا وطوردوا، بل إنّ ثلاثة منهم بلغ الإيذاء منهم مبلغه، حيث الضرب والسجن والمطاردة، وروي عن ثلاثة منهم أنّهم -بصورة أو بأخرى- كان لهم إسهام في حركات الخروج على الدولة العباسية، ورابعهم وهو أحمد كان صموده في فتنة خلق القرآن خروجًا على التوجه العقديّ للسلطة السياسية، وجميعهم طُلب منه القضاء فرفض، وكان ذلك منهم بمثابة عصيان مدنيّ للسلطة السياسية؛ بدليل أنّ الخلفاء كانوا يطاردون من يرفض القضاء ويحملونه عليه بالسيف، وما ذلك إلا لقناعتهم بأنّ هذا السلوك صورة من صور الخروج على السلطة، ولا ننسى أنّ مالكًا في وقت مبكر جدًا في أوائل التدوين رفض تحالف العلم مع السلطة بإبائه أن يعتمد «الموطأ» بأمر الخليفة ليكون كتاب السُّنة للأمّة.
وبالمجمل، فإنّ الأئمة الأربعة ومن جاء بعدهم -على الأقل طوال عصر التدوين وما بعده- كانوا في حال عزلة عن الحياة السياسية وخصومة معها، وهذا مشهور بما لا يحتاج لأدلة جزئية.
فإذا عدنا إلى أحاديث السمع والطاعة وجدناها قد استفاضت وانتشرت واستُعملت قبل عصر التدوين، من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، ولقد جاء الأمر بالسمع والطاعة في الأحاديث مقرونًا بلزوم الجماعة والوفاء بالبيعة؛ بما يعني أنّ السمع والطاعة يراد به قبل كل شيء إقامة الحكم واستقرار الدولة وإقرار النظام وإنهاء حالة الفوضى، وربما يكون السبب في كثرة الأحاديث الآمرة بالسمع والطاعة هو هذا المقصد الكبير، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أصحابه الخنوع للظالم بقدر ما كان يخشى عليهم التمرد على الحاكم؛ لأنَّ العرب لم يتربوا في بيئتهم البدوية على الطاعة لنظام يحكم ويفرض سلطانه، إنّما كانت طاعة العربيّ لسَيْفِهِ وهواه، والصحابة عندما أسلموا عرفوا الطاعة لله ورسوله وتربوا عليها، فهل سينتظمون في الطاعة لمن سيخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشأن العام للأمة الإسلامية وهو ليس معصوماً ولا يوحى إليه؟ هذا هو ما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلقينهم إياه.
وأمّا حديث «الأئمة من قريش» فلا علاقة له بأيديولوجية سياسية، ولا إلزام بمقتضاه إذا انتفت علته، فإنّ علة هذا الحديث الذي روي عن نحو من أربعين صحابيًّا كانت تتمثل في أنّ العصبية واقع فرض نفسه على الحياة آنذاك، وكانت قريش أوسط العرب داراً ونسباً، فإذا كان الخليفة منهم لم تعترض عليه باقي القبائل، ولم تنشز بعصبيتها عليه؛ وعليه فإنّ الحديث لا علاقة له بأيديولوجيا سياسية، وإنّما الأمر هنا أمر جماعة وأمّة ووحدة وتحوط من الفرقة واحتراز من الفتنة، هذا وحسب.
ثمّ إنَّ الملاحظ أنّ عصر التدوين كان عبّاسيًّا، ومع ذلك لم نجد للعباسيين شيئًا يخصُّهم لا في الحديث ولا في الفقه، أمّا حديث القرشية فقد عُمل به من أول يوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا أحاديث السمع والطاعة للإمام فاستفاضتُها كانت من اللحظات الأولى، وليس لبني أميّة ولا بني العباس ما يخصهم في هذا ولو بإشارة عابرة، بل على العكس تماما فإنّ الأحاديث كثرت في فضل آل البيت على الرغم من أنّ آل البيت كانوا أكبر تهديد للأمويين، وأنّ الطالبيين كانوا أكبر تهديد للعباسيين.