جاءت آيات من القرآن بأنباء عن الأمم السابقة؛ كقصة آدم، وقوم نوح، وقوم هود، وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى – عليهم السلام -، وكثير منها لا يعرفه العرب، فحكاها القرآن حكاية من حضرها وشاهدها، ولم نجد في التاريخ ما يخالفها.
وقول بعضهم: إن قصة آدم تمثيل، وغير واقعة كلامٌ لا يستند إلى شيء معقول، فضلاً عن تاريخ صحيح.
وقوله تعالى في قصة مريم: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: ٢٨]؛ حيث جعلها أختَ هارون قد أجاب عنه النبي – صلى الله عليه وسلم -: بأنهم كانوا يُسَمّون بأسماء أنبيائهم، وليس المراد هارون أخا موسى.
ومن أنباء القرآن ما يكون مستقبلاً , ووقع كما أخبر به؛ كقوله تعالى: {الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: ١ – ٤]؛ فقد غَلبت الروم في بضع سنين كما أخبر به القرآن في قوله: {سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ} وقد نزل القرآن في آخر غزوة من غزوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقال للمخلَّفين: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: ١٦]، ولم يدعُهم النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها نزلت في آخر غزوة من غزواته، ودعاهم أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – إلى قتال أهل الردّة ذوي بأس شديد.
ولا يدخل في الإخبار بالمغيبات ما توهمه بعضهم من أن مصر تفتح للعثمانيين في عهد السلطان سليم سنة كذا؛ أخذاً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: ١٠٥]؛ إذ أن حروف (ولَقَدْ) توافق حروف (سليم) في حساب الجمل، والذكر يوافق حسابها تلك السنة، فيكون المعنى: سليم، كتبنا في الزبور من بعد تلك السنة أن الأرض -أي: مصر- يرثها عبادي الصالحون، وهم العثمانيون.
فلا يؤخذ من القرآن إلا ما نزل للهداية، وما حصل من فتح سليم لمصر في السنة المذكورة كان مجرد مصادفة.
والقرآن وصل بالبلاغة – وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال – إلى أعلى مما وصل إليه بلغاء العرب، فتحدّاهم بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣] , وقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: ١٣].
وأذكر بهذه المناسبة أني زرت الشيخ محمد بن يحيى الشنقيطي في الحجرة التي نزل بها من زاوية الشيخ إبراهيم الرياحي في تونس سنة ١٣١٥ هـ , فوجدته يتلو من حفظه الأبيات التي وجهها السائل للشيخ السبكي، ويقول فيها:
أسيدَنا قاضي القضاة ومَن إذا … بدا وجهُه استحيا له القَمَرانِ
رأيتُ كتابَ الله أكبرَ معجزٍ … لأفضلِ من يهدى به الثقلانِ
ولكنني أبصرتُ في الكهف آيةً … بها الفكرُ عن طولِ الزمانِ عياني
وما هي إلا استطعما أهلَها فقد … أرى اسْتَطْعَماهُمْ مثله ببيان
فما السرُّ للقرّاء في وضع ظاهرٍ … مكان ضميرٍ؟ إنَّ ذاكَ لِشانِ
وذكر في الجواب: أن (أهلها) جمع مضاف يفيد العموم، فيدل على أنه استطعم جميع أهل القرية؛ بخلاف ما لو أتى به ضميراً، فإنه يحتمل أن يكون الاستطعام لمن أتاهم، وهم سكان أول القرية.
وقد جاء في القرآن ما نطق بمعناه العرب، فقالوا: (القتلُ أَنفى للقتل)، وقال القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩].
وقال العرب:
كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُه … يوماً على آلَةٍ حَدباءَ محمولُ
ولقول القرآن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: ١٨٥]؛ فما نطق به القرآن أوجز وأبلغ.
وحكاية القرآن لأقوال الناس؛ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: ٩٠ – ٩٣] إنما هي حكاية لمعنى ما قالوه، لا لفظه، فلا يكون منهم معجزاً كإعجاز القرآن.
وأذكر بهذه المناسبة أنه أقيمت مأدبة للشيخ محمد عبده عندما زار تونس، وكان من الحاضرين الشيخ سالم بو حاجب، فحكى حكاية اقتضى الحال أن يعيدها الشيخ محمد عبده للحاضرين، فقال له الشيخ: قد أعدتها بأحسن مما قلته أنا. والشيخ محمد عبده لم يزد في الحكاية معنى لم يقله الشيخ، وإنما حكاها بألفاظ أفصحَ من عبارة الشيخ بو حاجب، وأبلغَ.
وتذاكرت مع الشيخ عارف المنير أحدِ علماء الشام في علوم القرآن، فأخبرني بأن بعضهم قال له: ما وجه معجزة القرآن؟ فأجابه الشيخ عارف بقوله: بلاغته، فقال له المعترض: بلوغ الكلام الدرجة العليا من بلاغة اللغة لا يدل على أنه معجزة، كما أن (هوميروس) ألَّف في تاريخ اليونان قصيدة قالوا: هي أبلغ ما قيل في لغة اليونان، ولم يستطع أحد أن يقول مثلها في البلاغة، ولم يكن بذلك رسولاً.
فقلت للشيخ عارف: الفرق بين بلاغة (هوميروس) وبلاغة من يليه فرق قريب، أما الفرق بين بلاغة القرآن، وأبلغِ متكلم باللغة العربية، ففرق بعيد، فيصح أن يكون معجزة للرسول، وإن أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – بليغة في ذاتها، ولكنْ هناك فرق بينها وبين القرآن. وقد تحدى الرسول العرب بالقراَن، فعجزوا عن الإتيان بمثله.
ومن بلاغة القرآن: قولُه تعالى حكاية عن عيسى – عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨]، فالمراد: وإن تغفر لهم، فإنك أنت القوي الغالب الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، ولا يصح الوقف إلا على قوله: {الْحَكِيمُ}، وليس مراده الاستشفاعَ لهم حتى يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم – كما توهمه بعضهم، وجعل الوقف على قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}، وجعل قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨] مستأنفاً.
وهذا الوجه من وجوه الإعجاز لا يدركه إلا من عرف بلاغة اللغة العربية.
ومن إعجاز القرآن: اشتماله على حِكَم ومعان صحيحة، وعدم وجود اختلاف بينها مع كثرتها، وهذا الوجه من الإعجاز يدركه حتى من لا يعرف بلاغة اللغة العربية.
وقد دخلت إلى مسجد (بايزيد) بالآستانة في رمضان، فوجدت عالماً تركياً يدرس “شرح السعد على التلخيص” في بلاغة اللغة العربية، فكان يقرأ النص العربي، ويشرح لهم المعنى باللغة التركية، فيفهمون المعنى وحكمته.
وقد سألني بعض من له دراية بعلوم الفلسفة، فقال: إن الحكماء يقولون: إن الصداقة لا تدوم إلا بين الفضلاء، فهل يوجد هذا المعنى في القرآن؟ فقلت له: يقول الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٧]، فهذا يدل على أن الفضلاء يستمرون على صداقتهم، ولو مع الأهوال العظيمة.
وإن القرآن وحده دعوة وحجة، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: ٦]؛ حيث جعل سماعه للقرآن حجة كافية في الدعوة.
____________________________________________________________
(١) مجلة “لواء الإسلام” – العدد الثامن من السنة الحادية عشرة الصادر في ربيع الثاني ١٣٧٧ هـ – نوفمبر تشرين الثاني ١٩٥٧ م.