أقام الله تعالى هذه الحياة على سنن، وجعلها قاضية على الفعل البشري، فكل مقدمة يقوم بها البشر يترتب عليها من النتائج الإلهية ما يتناسب معها، فهناك منظومة كاملة من السنن الجارية التي يجب على المسلمين أن يهتموا بها ويتسقوا معها، ولا يغالبوها، بل ينسلكوا فيها ويعملوا بمقتضاها ويستثمروا تيارها، ومن هنا يكون النصر قاب قوسين أو أدنى.
ومن هذه السنن العظيمة سُنة النصر التي أودع الله تعالى في الحياة والأحياء طبيعتها وقوانينها وجوانبها المختلفة، وبين معالمها وما يتعلق بها في القرآن والسُّنة، وفي هذه السطور نبين شيئاً من قواعدها التي لا تتحقق مقاصدها إلا بها على النحو الآتي:
أولاً: النصر من عند الله تعالى:
هذه قاعدة غاية في الأهمية، فالنصر ليس بيد أحد، ولا يملكه أحد، وليس من عند أحد، وإنما هو من عند الله، يقول تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126).
يقول العلَّامة عبدالرحمن السعدي: «فلا تعتمدوا على ما معكم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سُنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه، ولهذا قال: (مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ)، فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره (الْحَكِيمِ) الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الأوقات على المسلمين إدالة غير مستقرة».
ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 10)، (وَمَا جَعَلَهُ)؛ يعني إمداد الله عباده بالملائكة، حيث قال قبلها: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9)، فقوله تعالى هنا: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)؛ يعني لا تظنوا أن النصر من عند الملائكة، ولا من عند أنفسكم، وإنما هو من عند الله على الحقيقة، وليس هذا كله إلا سبب من أسباب النصر؛ فهو العزيز الذي لا يغالب، والحكيم في كل أفعاله.
ثانياً: إن تنصروا الله ينصركم:
القاعدة الثانية هي أن ننصر الله تعالى كي ينصرنا؛ فلن يكون هناك نصر من الله تعالى إلا إذا بذلنا كل ما في وسعنا، وطرقنا كل الأبواب، وسلكنا كل الطرق، وأخذنا بكل سبب، وبذلنا كل ما في الوسع، ولم نترك في خطتنا شيئاً يكمله الذكاءُ والفطنة، وهنا تأتي سُنة الأخذ بالأسباب؛ حيث إن السنن الإلهية منظومة متكاملة، يكمل بعضُها بعضاً، ويتعاون بعضها مع بعض.
وقد أقام الله الحياة على تقديم الفعل البشري (تَنصُرُوا اللَّهَ)، ليرتب على ذلك النتيجة الربانية: (يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، وإلا فالله تعالى قادر على أن ينتصر من المشركين، ولكنه جعل الأخذ بالأسباب هنا عن طريق الجهاد سنته في النصر؛ ليكون سبيلاً إلى الابتلاء والتمحيص والاختبار: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (محمد: 4)، يقول الإمام القرطبي: «وَمَعْنَى «لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ»؛ أَيْ أَهْلَكَهُمْ بِغَيْرِ قتال، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَهْلَكَهُمْ بِجُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، «وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ»؛ أَيْ أَمَرَكُمْ بِالْحَرْبِ لِيَبْلُوَ وَيَخْتَبِرَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ وَالصَّابِرِينَ.
ومن هنا قال تعالى مقرراً هذه القاعدة العظيمة التي يجب أن نتخذها دستوراً إن أردنا نصر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، قال العلَّامة السعدي: «هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره».
ويدخل هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ».
قال الإمام ابن حجر: «قوله المسلم أخو المسلم هذه أخوة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد، والبالغ والمميز، قوله لا يظلمه: هو خبر بمعنى الأمر؛ فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله ولا يسلمه: أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا، وقد يكون مندوبا، بحسب اختلاف الأحوال».
ومن هنا أجمع المسلمون على أن العدو إذا احتل محلة من أراضي المسلمين وجب على الجميع جهاده ودفعه؛ رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، أحراراً وعبيداً، فإن لم يتحقق الدفع والدحر بأهل المحلة، وجب على من يلونهم عونُهم ونصرهم حتى تتحقق الكفاية بدفع العدو ودحره.
ثالثاً: النصر بالمؤمنين:
هذه قاعدة مهمة؛ ولن يكون هناك نصر إلا بالمؤمنين، ولا بالمنافقين أو المشركين أو الكافرين قال تعالى: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 62)، التأييد هنا بنصر الله وبالمؤمنين؛ فلا نصر إلا من عند الله، ولا نصر إلا بأن ننصر الله، ولا نصر إلا بالمؤمنين.
وهذا يقتضي أن يتحقق هؤلاء بحقيقة الإيمان، فيكون النصر على قدر تقرير الإيمان في القلوب، وإذا ضعف الإيمان فلن يكون النصر حقيقياً، فالله تعالى هنا يضع لنا معياراً حقيقاً، متى حققناه تحقق النصر، ومتى أهملناه تأخر النصر.
وهنا يأتي الحديث عن العبودية؛ فالله لا ينزل نصره إلا على «عباده»، ولا يستخدم إلا «عباده»، ولا يبعث إلا «عباده»، قال تعالى: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) (الإسراء: 5)، ونحن الآن نعيش علامات وأجواء «وعد الآخرة» إن شاء الله، فحريٌّ بنا أن نحقق معاني العبودية في نفوسنا كي يحقق الله موعوده لنا، وينزل وعيده بأعدائنا، (وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً)؛ يعني مقضياً ومتحققًا بحصول أسبابه منكم.