عرف البشر الحرب والإغارة منذ أقدم العصور، والتاريخ الإنساني في جوهره هو مجموعة من الحروب أو الصراعات حول المصالح والامتيازات المادية أو الأيديولوجيات والمبادئ العقدية التي يطلق عليها القرآن مصطلح «الدفع»؛ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40)، وعلى هذا الأساس شرعت الحرب في الإسلام باعتبارها لازماً من لوازم الاجتماع الإنساني، وهذا لا يعني أنه يحبذها ويدعو إليها، بل إنه ينظر إليها باعتبارها مفسدة لا تُرتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأول مفسدة شُرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية، ومفسدة رفع الظلم.
ويذكر الشيخ البشير الإبراهيمي أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة «شُرع»، أو «وجب»، أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيراً محضاً ولا صلاحاً سرمداً، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شراً آخر.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن صيغة الإذن توحي أن الأصل التوقف عن الحرب إلا لضرورة مُلجئة؛ ولهذا يؤثر عن الإمام مالك قوله: «قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) ففي قوله تعالى: (يُقَاتَلُونَ)، وفي قوله: (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) وفي قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام، تحمل عليها نظائرها في كل زمان».
وحين شرع الإسلام الحرب وأذن بها لم يتركها دون أن يضع لها قواعد وأحكاماً كلية تضبط ممارساتها وتكبح الأنفس عن المبالغة في الشرور وتردها إلى الاعتدال، ومن ذلك النهي عن التمثيل بالقتلى والتعذيب والتشويه العمدي للجثث وغير ذلك من صور القتل الوحشية، والنهي عن قتل النساء والصبيان والرهبان المنقطعين للعبادة، والنهي عن قتل الحيوان الذي ينتفع به، والنهي عن تلويث الآبار وسائر منابع المياه، والنهي عن إتلاف الزرع وقتل الشجر، وغير ذلك من الضوابط الأخلاقية التي يضيق المقام عن ذكرها.
ومن لوازم الحرب سفك الدماء، والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلا بحقها، وليست عصمة الدماء خاصة بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مثلهم في ذلك أصناف من أهل الكتاب، وهم:
– الذميون؛ أي أهل الذمة الذين استقروا في ديار الإسلام، وعقد الذمة لم يشرع إلا بعد فتح مكة وقبلها لم يكن موجوداً، وحكمة مشروعيته، كما يقول الفقهاء، أن يترك الحربي القتال مع احتمال أن يدخل في الإسلام. (الموسوعة الفقهية الكويتية، 37 / 168).
– المستأمنون: وهم من دخلوا دار الإسلام لفترة مؤقتة، ويتمتعون بالأمان المؤقت أو الدائم، ويذهب الحنابلة إلى أن عقد الأمان يجب ألا يزيد على عشرة أعوام، وعند الشافعية لا يزيد على أربعة أشهر، وهناك شروط له، ومنها ألا يقع عند الخوف من الكفرة والكتابيين، ويشترط المالكية ألا يكون فيه ضرر على المسلمين، فلو أمنت جاسوساً أو طليعة في جيش يحارب المسلمين لم ينعقد الأمان أصلاً. (عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين، ص 48).
– المعاهدون: وهم الذين استقروا بعهد محدد الأجل لا مطلق، ويسمى الهدنة والمهادنة والمعاهدة والموادعة.
ويختلف حكم الأسرى عن الأصناف السالفة، والأسير في استعمالات الفقهاء يطلق على «كل من يُظفر بهم من المقاتلين ومن في حكمهم، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حرب فعلية، ما دام العداء قائماً والحرب محتملة» (الموسوعة الفقهية، 4/ 195)، أي يطلق على كل مؤهل للقتال حتى وإن كان غير مقاتل، ولا ينبغي الظن أن استعمالات الفقهاء تجاوزها الزمان؛ لأن البروتوكول الأول من اتفاقية جنيف الدولية الموقعة عام 1949م يذهب إلى أن مفهوم الأسير يشمل أفراد القوات المسلحة النظامية، كما يشمل المراسلين الحربيين والأفراد المدنيين الذين يعاونون القوات المسلحة ويعملون على ثباتها في القتال، مثل: أطقم البواخر والطائرات المدنية، ومتعهدو تموين الجيش، وغيرهم من المدنيين.
ويخير الإمام في هؤلاء الأسرى بين الفداء بالمال، أو يفتدي أسرى المسلمين بهم، أو القتل، وهو مشروع لقوله تعالى: (فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ) (الأنفال: 12) وقوله: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) (التوبة: 5).
وهذه الأحكام والقواعد النظرية التي وضعتها الشريعة تبين لنا ما هو الجائز وغير الجائز في التعامل مع الآخر وخصوصاً الحربي، وهي في مجموعها تشكل إطاراً ملزماً قانونياً وأخلاقياً ملزماً للمسلم، لكنَّ ثمة نقاطاً ينبغي أخذها في الاعتبار حين يتم تنزيلها على أرض الواقع:
أولاً: أن نصوص الشريعة ليست نصوصاً جامدة مصمتة خارج إطار الزمان والمكان، وإنما هي نصوص حية تتفاعل مع الزمان والمكان وتتأثر بهما وتؤثر فيهما.
ثانياً: أن عملية فهم الواقع بمفرداته (الظرف التاريخي، والمآلات) ركن رئيس من عملية تكييف الحكم الشرعي ولا يمكن تجاوزها بحال.
ثالثاً: الحكم الشرعي العام حين يجري تطبيقه على واقعة خاصة قد يتأثر تأثيراً عرضياً لا جوهرياً ولفترة مؤقتة، ولهذا يقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ) (البقرة: 217).
واستناداً إلى هذا، يمكن القول: إن بعض الأحكام الشرعية يمكن أن تتأثر تحت تأثير الواقع، وقد حدث هذا مراراً، وهذا التأثير قد يكون بتغليب المرجوح على الراجح، أو بتقييد العام وإطلاق الخاص، أو حتى بتعطيل الحكم إن لم يؤد تطبيقه إلى تحقيق المصلحة، بل ربما أفضى إلى المفسدة؛ وعليه فإن الإقدام على قتل نفر من المستأمنين أو قتل أسرى العدو والتنكيل بهم لأجل الردع لا يصادم الشريعة، بل يحقق مقصودها، ويعبر عن فهم عميق لطبيعتها الحيوية التي تجعل منها شريعة صالحة لكل زمان ومكان.