عن ثوبان، رضي الله عنه، قال (سمعتُ النبي ﷺ يقول: «لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك») [مسلم]، وقد ورد الحديث بصيغ أخرى ومن طرق متعددة، يؤخذ منها: أن هذه الطائفة أو تلك الفئة هي جماعة من المسلمين وليست كل المسلمين، وأنها على الحق، وأن هناك من الأمة من سيخالفهم، بل يخذلهم في مواضعَ يحتاجون فيها إلى النُّصرة، وفي الحديث بُشرى لأهل الحق بالعلوِّ والنصر بفضل الله.
صفات الطائفة المنصورة
وقد استنبط العلماءُ من الحديث صفات هذه الطائفة، وهي ذاتها صفات الصحابة الأماجد والسلف الكريم وأمارات المؤمنين الذين لا يخلو منهم عصرٌ ولا مصرٌ مهما انتفش الباطلُ وعمَّ الفساد.. إنهم رجالُ العقيدةِ، الغرباءُ، الذين يصلحون عند فساد الناس، والعقلُ الجديدُ الذي يريد الله أن يفرّق به للإنسانية بين الحق والباطل، في وقت التبس عليهم فيه الحق بالباطل، وهم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاء صحابته من بعده، وهم قومٌ لا يُقادون برغبة ولا برهبة، ولا يخشون أحدًا إلا الله، ولا يغريهم جاه ولا منصب، ولا يطمعون في منفعة ولا مال، ولا تعلق نفوسُهم بعرضٍ من أعراض هذه الحياة الفانية، ولكنهم يبتغون رضوان الله، ويرجون ثواب الآخرة، ويتمثّلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]، فهم يفرّون من كل الغايات والمطامع إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله.
قوم لا يعرفون اليأس
وهم قومٌ يعلمون مشاقَّ الطريق وضريبة الإصلاح؛ من أجل ذلك فإنهم يتحلوْن بنَفَسٍ طويل، وصبرٍ عجيب، موقنين بأن لكل جهد ثمرة وإن طال الزمن، وبأن بعد العسر يسرًا، بل يُسْرَيْنِ كما وعد ربُّنا عز وجلّ، ولعلمهم أن اليأس ليس من أخلاق المسلمين، وأن حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، كما يعلمون أنه لا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس الشعوب المؤمنة، رغم طغيان مظاهر الفساد، وأن الضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، وأن القوي لا تدوم قوته أبد الآبدين..
نصر أو استشهاد
يهبُ رجالُ العقيدةِ حياتَهم كلها لله، جاعلين هدفهم الأسمى منصبًّا على رضا الله، فسيان عندهم الموت أو البقاء، وإنهم لا يعجزهم شيءٌ أمام ما يبتغون، وهو النصر أو الاستشهاد؛ ولثقتهم فيما عند الله يقولون: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]؛ ما يولَّد لديهم قوة نفسية عظيمة تتمثل في المرابطة والثبات، واحتمال المكاره والمشاق، والصبر على الشدائد والمحن ما لا يكون عند غيرهم.. وهم على يقين بأن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلَّنا إلا حبُّ الدنيا وكراهية الموت.
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
وتوكُّلُ رجلِ العقيدةِ على الله وثقته في نصره له لا يعني قعوده عن الإعداد والتجهيز لمعاركه، بل هو سبَّاق إلى كل جديد، ساعٍ إلى كل قوة؛ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]، فالمسلمون حفروا الخندق حول المدينة، وكان اختراعًا فارسيًّا لم تعرفه العرب من قبل، وتعلَّم الصحابيُّ لغة اليهود في خمسة عشر يومًا ليأمن المسلمون شرَّهم، واخترع المسلمون آلات حربية حسمت لهم النصر في معارك فاصلة، مرجعهم في ذلك: «الحكمةُ ضالةُ المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها»، وهم لذلك يستعينون بأهل الخبرة ولو كانوا من غير المسلمين، ويحترفون في أعمالهم، ويعالجون نقاط ضعفهم، ويحسِّنون دومًا من أدائهم.
أثر العقيدة في صياغة الرجال
ويتع بُ كثيرون: كيف لمجموعات جهادية في غزة قليلة العدد محدودة الإمكانات، تتحدى قوى البغي والاستكبار العالمي في فلسطين الأبية وغيرها، رغم ما تمتلكه هذه القوى من جيوش لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، وقد رضخت لها أنظمتُنا السياسية فباتت معاونة لها، خنجرًا في ظهر شعوبها.. إنّ هذا هو الفرق بين رجل العقيدة الذي يستعين بالله فلا يعرف المستحيل، وغيره ممن لا مبدأ لهم ولا رأي، وقد رأيناهم وقد انسلخوا عن دينهم وتاجروا بأوطانهم وفرَّطوا في أمننا القومي؛ ذلك أن للعقيدة أثرًا عظيمًا في صياغة القادة، وصناعة الرجال الذين هم سرُّ حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين، أقوياء النفوس والإرادات.
عنصر القوّة في الإسلام
إنّ عنصر القوة في الإسلام كامنٌ في ملاءمته للفطرة البشرية، وفي الاستعلاء على العبودية للعباد ورفض الخضوع إلا لله رب العالمين، وفي عدم الوقوع تحت سلطان الطغاة المتسلّطين، مهما اشتدت وطأتُهم، ومهما قاموا بحملات القمع والإبادة، والتضليل والتشويه.. إنّ عقيدة المسلم تفرض عليه ألا يتوكل إلا على الله، وألا يركن لسواه، وألا يدعو غيره، فإذا وقع بينه وبين الظالمين صدام؛ ثبت في الميدان، واحتمل الأذى والعذاب، صابرًا محتسبًا، موقنًا بنصر الله، وبوعده للصادقين المخلصين؛ يقول الشيخ أحمد ياسين: (إنه ما من خلاص إلا بالعودة إلى الله ومنهج السماء ودعوة محمد بن عبد الله، إنّ هذه الأمة كانت يومًا ذات عز بالإسلام، وبدون الإسلام فلا غلبة ولا نصر، وسوف نظل نراوح الأقدام مع ما نحن فيه من تخلّف حتى يتسلم الراية والقياد نفرٌ من هذه الأمة ملتزمٌ بالإسلام منهجًا وسلوكًا، حركة وتنظيمًا، ثقافة وجهادًا.. هذا هو الطريق، ولا طريق غيره).