مع توالي مجازر العدوان الصهيوني في قطاع غزة، على مشهد من العالم، برزت أهمية دور “الصورة” و”الفن” في تعزيز هوية الأمة ومناعتها في مواجهة الطغيان، إذ شاهدنا آلاف الفلسطينيين في القطاع المحاصر منذ 17 عاما يؤلفون الأغاني ويبثون مقاطع الفيديو دعما للمقاومة، فضلا عن الاهتمام البارز لكتائب المقاومة، عبر تصوير وبث عملياتها البطولية.
أصبحت كلمات مثل “معلش”، التي نطق بها مراسل قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، بعد استشهاد ابنه وبنته، وصور ضحايا المجازر والمقاومين، وحتى رموز فيديوهات العمليات الجهادية، مثل السهم الأحمر الدال على استهداف الآليات الإسرائيلية، “أيقونات” يتداولها الملايين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كوسيلة لدعم القضية فيما يسمى عالميا بمعركة “الهاسبرا”.
والهاسبرا كلمة عبرية تعني “التفسير” أو “التوضيح”، وتستخدم للإشارة إلى الجهود الإعلامية والدبلوماسية والترويجية التي يقوم بها الكيان الصهيوني أو من يدعمونه لتبرير سياسات الكيان وأفعاله الإجرامية وتحسين صورته في العالم، وتهدف إلى تشويه الحقائق وتضليل الرأي العام وتشويه سمعة الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمناهضين للصهيونية.
وتستخدم “الهاسبرا” وسائل متعددة ومتنوعة، مثل الإعلام الرسمي والخاص والتواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمنظمات غير الحكومية والمؤثرين والمحللين والأكاديميين والسياسيين والدينيين والفنانين والرياضيين والمشاهير.
وتساهم جهود داعمي الشعب الفلسطيني عبر شبكات التواصل حاليا في إنتاج مواد إعلامية وفنية تواجه الهاسبرا الصهيونية، وبمرور الوقت ربحت تلك الجهود التعاطف العالمي بشكل كبير، وهو ما ترجمته الحشود المليونية في أوروبا، المنددة بمجازر النازية الصهيونية في الأراضي الفلسطينية بوجه عام، وقطاع غزة بوجه خاص.
وفي هذا الإطار، عادت إلى الواجهة دراما الإبداع الداعم للمقاومة، باعتبارها من فنون التعبير الإبداعي، التي تستخدم اللغة والحركة والصوت والصورة لترويج رسالة إلى الجمهور، مفادها أن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يُسترد إلا بالقوة، كما يؤكد التاريخ الإنساني.
فالدراما ذات أثر كبير في الوعي الجمعي الحضاري للأمم، إذ تعكس واقعها وتاريخها وثقافتها وقيمها، وتساهم في توعيتها من براثن الجهل والتخلف من جانب، وتحريضها على مواجهة الاحتلال من جانب آخر، وبالتالي فهي تلعب دورا تربويا بامتياز في تنمية شخصية الإنسان العربي والمسلم وتعزيز روح التضامن والانتماء لديه.
ومن أمثلة الأعمال الدرامية التي كانت مؤثرة في الوجدان العربي والإسلامي، وتناولت قضايا حضارية وتاريخية وسياسية ودينية، وعادت اقتباس مشاهدها في خضم أحداث غزة، مسلسل أرطغرل التركي، وهو مسلسل تركي تاريخي، يروي قصة حياة الغازي أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، ويصور الصراعات والمعارك التي خاضها مع الصليبيين والمغول والفرس والروم، ويظهر القيم الإسلامية والعربية.
وسبق أن حقق المسلسل نجاحا كبيرا وانتشارا واسعا في العالم العربي والإسلامي وحتى الغربي، وعادت مشاهده مجددا في اقتباسات مقاومي الهاسبرا الصهيونية، باعتبار أن ما يجري في غزة اليوم هو امتداد لمسيرة تاريخية واحدة لأمة حق تواجه الباطل على مدى أكثر من 14 قرنا.
وبرزت مشاهد فيلم “الرسالة” أيضا في السياق ذاته، والذي يتناول قصة الإسلام من بداية الدعوة إلى وفاة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ويعرض المعجزات والغزوات والمواقف النبوية، ويبرز الدور البطولي للصحابة والأنصار والمهاجرين، ويعتبر من أهم الأفلام الإسلامية في التاريخ.
أما نصيب الأسد في استشهادات “الهاسبرا الفلسطينية” فكانت لمشاهد فيلم “عمر المختار”، الذي يحكي قصة الشيخ الشهيد، عمر المختار، زعيم المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي، ويصور الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الاستعمار الفاشي، ويبين الثبات والإيمان والفداء الذي أبداه المجاهدون الليبيون، وهو من أشهر الأفلام العربية والعالمية.
انتهى الفيلم بإعدام عمر المختار شنقا، وسقوط نظارته ليلتقطها طفل ليبي، في إشارة رمزية إلى “تسليم الراية” إلى جيل جديد من المجاهدين في ليبيا، وهو ما جرى بالفعل حتى تحررت البلاد من الاحتلال الإيطالي.
دلالة المشهد الأخير من الفيلم كانت ذات دلالة قوية للغاية في ترويج الهاسبرا الفلسطينية، إذ قارن الداعمون للمقاومة بين عمر المختار والشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي باتت تقود اليوم الكفاح الفلسطيني بكتائبها العسكرية (عز الدين القسام)، وتداولوا صورا له مع أطفال غزة، الذين يقاومون اليوم الاحتلال الإسرائيلي من “المسافة صفر”، وهو تعبير أصبح واحدا من أيقونات الهاسبرا الفلسطينية الجديدة.
لقد أكدت معركة “طوفان الأقصى” على الأهمية البارزة لدور “الصورة” في ربح المعارك مع الأعداء، والذي لا يقل أهمية عن ربح معركة القتال في الميدان، وهو ما عبرت عنه الآلاف من صور الأطفال العرب والمسلمين، الذين يجلسون للاستماع إلى خطابات ونبرة صوت “أبو عبيدة”، المتحدث باسم كتائب القسام، وما تشكله في أذهانهم ونفوسهم من قيمة تربوية في ظل الظروف التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية.
أثبتت هاسبرا فلسطين أن الدراما أداة فعالة في البناء الحضاري للأمم، وخاصة في ظل الأزمات والصراعات التي تواجهها، وأنه يجب توجيه المزيد من الاهتمام بها مستقبلا، ليس باعتبارها عاملا من عوامل تعزيز الهوية الحضارية للأمة فقط، بل باعتبارها أحد أسلحة المعركة مع العدو بالمعنى الحرفي للكلمة.