ما زلنا نعيش في أزمتنا الحالية أزمة أمة بأسرها، وما كشفته تلك الأزمة من خسائر ميدانية في الأرواح والثروات والحضارة والبناء، وهذا -في نظري- أقل من الخسائر الأكبر خارج حدود فلسطين وغزة في الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، إذ خسارتنا الأعمق في ركام الضعف والركون والصمت والخذلان والتسويف والإعراض، بل الأدهى من ذلك اتهام أصحاب الأرض والقضية بكونهم الجناة الظالمين المعتدين.
ومع غليان الشعوب الإسلامية والعربية والإنسانية في العالم بأسره مع القضية الفلسطينية من منظورها المختلف؛ الإنساني والقومي والحقوقي والمعتقدي والتاريخي، في ظل تخاذل قادتها وساستها، تأتي الأسئلة التي تدور في خلد الجميع ممن يعرف الإجابة أو لا يعرفها: لماذا لا ندافع عن فلسطين فيما هو متاح بين أيدينا؟! لماذا لا نستخدم المصالح المتبادلة، والثروات الأرضية، والإمكانات الجوية والبحرية والنفطية وغيرها في دفاع إنساني فضلاً عن الدفاع الديني والحقوقي والأخوي؟! لماذا لم يتقدم أحد للمحاكم الدولية في اتهام واضح وصريح للمحتل وما يقوم به وأدلته كالشمس على مرأى الجميع بإبادته الجماعية لأهلنا؟! هل من المعقول أن يكون التواتر قد انعقد على ترك الناس يموتون ويُقتلون والقضية تباع؟! هل وصل الأمر بالعمل السياسي والمصالح الدولية رؤية الدم والماء سواء، والحياة والموت رفقاء على شعب أعزل ومدنيين مسالمين؟!
وحتى كتابة هذه السطور تندهش بمن تقدم لهذا الأمر؛ خمس دول جلهم ليسوا عرباً أو مسلمين، فجنوب أفريقيا وبوليفيا وبنجلاديش وجيبوتي وجزر القمر، وما يفرح القلب بهذا الطلب لحظة، إلا ويقابله في النفس تحسر كبير على أمة مترامية الأطراف، قوية الثروات، مشتركة المعتقد، وأغلبها متحدة اللسان في صمت مخزٍ واستسلام مهين!
ولهذا، نقدم نموذجاً لرجل في زمن الأخيار قام بما لم تقم به قرابة ستين دولة لإخوة لهم، لنقف على روعة هذا الجيل وتفاعله القوي في نصرة إخوانه وجيرانه، رجل تقدم بمظلمته ونافح وحده عن إخوانه حتى خلص بهم وأعادهم إلى بيئتهم وموطنهم.
فعن أحمد عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ قَوْمِي فِي تُهْمَةٍ فَحَبَسَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَلَامَ تَحْبِسُ جِيرَتِي؟ وفي رواية: جِيرَانِي بِمَ أُخِذُوا؟ قالها: ثلاثاً، فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا لَيَقُولُونَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الشَّرِّ، وَتَسْتَخْلِي بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَقُولُ؟»، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَعْرِضُ بَيْنَهُمَا بِالْكَلَامِ مَخَافَةَ أَنْ يَسْمَعَهَا، فَيَدْعُوَ عَلَى قَوْمِي دَعْوَةً، لَا يُفْلِحُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ حَتَّى فَهِمَهَا فَقَالَ: «قَدْ قَالُوهَا أَوْ قَائِلُهَا مِنْهُمْ، وَاللهِ لَوْ فَعَلْتُ لَكَانَ عَلَيَّ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ خَلُّوا لَهُ عَنْ جِيرَانِهِ».
وهذا الحديث وإن كان فيه تجرؤ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه، فقد أوضحت الروايات وكذا شراح الحديث علة ذلك من غضب الرجل الذي لم يستطع أن يمسك نفسه معه، وكذا بيان جزء من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن جهل عليه من عفو وحلم الذي كان يقابل به بعض الأصحاب الأشداء الطبع والجبلة بالصفح والتجاوز، ومع هذا يبقى لهذا الرجل موقف ينبغي إبرازه والتدليل عليه نجليه فيما يلي:
أولاً: شدة غيرة الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على جيرانه وقومه؛ ما دفعه حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم –وكان هذا في تهمة لهم استوجبت حبسهم حتى نهاية التحقيق- على مراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، بل والاعتراض منه على ذلك، في دلالة واضحة على انتفاء الأنا والصمت والمحبة الشديدة لهم ومخاطبة السلطات في تسليمهم، وتحمل المسؤولية الكاملة من حق الجوار فيهم، وموقف معاوية هذا إنما هو موقف رجل واحد يطالب بعودة أمة.
ثانياً: القوة التي يخاطب بها الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت منبعثة من غضبه الشديد على حبس قومه وجيرانه لها دلالة عظيمة على شدة الأمر على نفسه وخروجه من مألوف سياسته ولباقته الدبلوماسية وتحسساته الحوارية التي يحاول الساسة الآن بيانها واللعب عليها واستعلائهم بها، وهي دليل أيضاً لمن يطرق بابه من عظم الأمر على نفسه، ولفت الانتباه إلى خطورة وضعه ومآلات تسويف قضيته، وهذا خطاب مهم عندما يتعلق الأمر بإبادة جماعية وضياع أمة وجيل كامل من أبنائها، فهذا أوان الغضب وشدة المقال واحتدام الدعاوى والوصول بالممكنات إلى إحقاق الحقوق وفرض الواجبات دون ذرة تهاون أو تقصير في حق، يقر القانون ويصل إليه المظلوم.
ثالثاً: طرق الرجل باب المحاكم الدولية –رسول الله مثلاً- لمطالبتهم بحق جيرانه في العودة وفك الحبس وعودتهم آمنين إلى بلادهم والاستمتاع بحقوقهم، وطرقه الشديد هذا دفعه لبيان عريضته وجمع أسباب فكاك قومه وجيرانه، فبين أنهم مسلمون، وأن إسلامهم ليمنعهم من تهمتهم هذه، وأنهم أخذوا في شبهة ليست صحيحة ولا ثابتة، وكرر مطلبه ووقف عند باب المحكمة لا يستسلم من رفع قضيته ولا يقلل من شكواه، بل جهر بها واستمات، إن جاز الأمر، في الوصول لتحقيقها –لم يبال بالجمع ولا بالمنع– أفرغ جعبته وأعذر نفسه أمام ربه وإخوانه حتى وإن كان المشتكى منه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إن الرجل طلب حق إخوانه ورد اعتبارهم في أمر اتهموا فيه ولم يثبت عليهم، ولم يبرح حتى وقف ينافح ويكافح ليبرئهم ويثبت عكس الشكاية بهم، وهو أمر قد يرد عليه بأنهم متهمون وبين يدي القضاء والحكم النبوي ينتظرهم، والعدل هنا أوفى وأتم من أي محكمة دولية ومؤسسات حقوقية يعرفها التاريخ، فكيف إذا كان طرق الباب لمظلومية الجار الذي سلبت أرضه وانتهكت حقوقه، واستبيح عرضه؛ فإن المطالبة ستكون أشد، والدفاع عنهم مستميتاً، فليس طلب الحقوق لهم كنفي التهم عنهم.
خامساً: في ذكر الرجل المقالة التي تحدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقالة عظيمة في ذكرها، جائرة في فحواها وتوجهها، مكذوبة لا تصدق، وكيدية ليس لها واقع ومشرب، لكن لها قراءة هنا مختلفة بعض الشيء قد تفسر بها، ولعل الصحابي لما قالها غضباً، ونقلها هنا عمداً، أراد بمقولته أن يحذر من إنزالها -من وجهة نظره- على واقع أضره وموقف ملموس عنده أخطأ تقديره فيه، وتلبس به تزويره في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشاه، لكن على نطاق المحاكم الدولية فالأمر مختلف، إذ التذكير بالإنصاف والعدل التي أنشئت من أجله وعدم الميل والتسويف لقضايا الأمم حس القوة والتوجيه، وعدم الرضا بالدخول في شأنها والتلاعب بقيمها ومقرراتها؛ أمر مهم، فإن دولاً تقدم طلباً عادلاً لها يجب أن يحمل اللغتين؛ لغة تحمل المسؤولية الكاملة منها، والتحذير في الوقت نفسه من مغبة تهاونها.
سادساً: إن مطلباً واحداً حقيقياً من رجل واحد صادق في عزمه، مؤمن بقضيته متعاطف تعاطفاً كاملاً مع إخوانه، يبذل ما يستطيع من الدفاع عنهم واستغلال كل حق في نفي التهمة عنهم وإرجاع حقوقهم لهم؛ ليعلّم دولاً بأكملها كيف وصلت به الحال إلى استجابة النبي صلى الله عليه وسلم له، ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تقديراً لموقفه ورؤية أن الشبهة عليهم غير مكتملة، أو كان له حق الحبس والعفو، فاختار العفو من أجل عريضته وتمسكه بحقه استمالة لهم وله، ليعلم كيف نطالب ونتضافر جهوداً على المستوى القانوني في إرجاع حق العباد والبلاد ومعاقبة الجناة والمحتلين بأشد العقوبات.
سابعا: لن يتحدث عن القوم أفضل من إخوانهم أهل جوارهم إن كانوا على قدر المسؤولية وفهموا حقيقة الحقوق الملقاة عليهم والتبعة والحقوق التي في رقابهم وأمام ربهم، لعلنا نفهم أنهم بذلك يعلون، وبإخوانهم ينجون.