في ظل صراع وجودي يعيشه العرب والمسلمون اليوم مع الكيان الصهيوني المُحتل، تُصبح الحاجة مُلحة لمناقشة قضية «الآخر» في رؤيتنا العربية وبخاصة في مناهجنا التعليمية العربية، وكيف تُنظم تلك المناهج رؤية الطلاب والنشء للآخر ومدى تشجيع تلك المناهج أو نكوصها عن مبادئ الانفتاح والتسامح مع الآخرين؟ أو ما وصلت إليه من تماهٍ مع الآخر وانسحاق لمصلحته وتخلٍّ عن الهوية تحت دعاوى من الانفتاح وتحت ضغط الخوف من الوصم بالتشدد والإرهاب.
ويشير مفهوم الآخر إلى طيف واسع من المعاني، فهو قد يعني الآخر بمعنى المكونات المختلفة للمجتمع الواحد، كأن تكون الأغلبية مسلمة والأقلية مسيحية، أو الأغلبية مسلمة سُنية والأقلية مسلمة شيعية، أو أغلبية عربية وأقلية كردية أو أمازيغية، فالآخر هنا هو المكون الذي يمثل الأقلية في المجتمع، ويعبر عن رؤية المجتمع للتنوع والاختلاف والتعايش السلمي، والآخر قد يشير إلى المرأة في مواجهة الرجل أو الذكورية المسيطرة على مجتمع ما، وصورة النساء المبثوثة في الثقافة والمناهج التعليمية تشكل رؤية ذلك المجتمع لقضايا المرأة والمساواة والحرية.
والآخر هاهنا نبتغي به الحضارات المختلفة عن الحضارة الإسلامية بما تحويه من ديانات وطوائف شتى تشترك في اللغة والتاريخ والأرض، وهو في أغلب الدراسات يعنى به الغرب في مواجهة المسلمين، وأحياناً هو الغرب في مواجهة الشرق بشكل عام.
الآخر في مناهجنا
وعبر عقود مضت، كانت المناهج العربية توصم بأنها غير متسامحة ولا منفتحة على الآخر –بمعنى الغرب- فهي رأت فيه فيما مضى عدواً، ورغم أن هذا الغرب مثّل عبر عقود طويلة عدواً فعلاً عبر احتلال عسكري دموي اجتاح معظم الدول العربية والإسلامية والأفريقية، فإن كثيراً من المنظمات الغربية رأت في المناهج العربية تشدداً وتطرفاً وإرهاباً نتيجة رد فعل منطقي رأى في المحتل عدواً ينبغي أخذ موقف رافض له.
ومن ناحية ثانية، كانت صورة «إسرائيل» في المناهج العربية تنطبع على أنها كيان محتل غاصب ومرفوض، وذلك قبل أن تعقد بعض الدول العربية سلسلة معاهدات سلام مع ذلك الكيان المحتل، بدءاً بمصر عام 1979م، ثم السلطة الفلسطينية عام 1993م، ثم الأردن عام 1994م، وقبل أن تنطلق موجة «السلام الإبراهيمي» للتطبيع مع «إسرائيل» عام 2020م من جانب الإمارات والبحرين، وهو ما فجر الدعوات الخاصة بإعادة النظر الشاملة في المناهج التعليمية العربية ورؤيتها للآخر –المقصود به «إسرائيل»– انطلاقاً من ادعاءات إضفاء مزيد من التسامح والانفتاح على تلك المناهج.
ولم تكن موجة التطبيع العربي «الإسرائيلي» هي الحافز الوحيد، بل سبق ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما فرضته على الأنظمة العربية من ضغوط دولية تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب، إذ ارتأى الباحثون والمتخصصون في الغرب بأن جزءاً كبيراً من العداء للولايات المتحدة وسبب رئيس من أسباب الهجوم عليها الرؤية العربية المعادية التي تزرعها المناهج العربية في نفوس النشء ضد الولايات المتحدة، وليس توجهات تلك القوة الدولية التي تدعم «إسرائيل» طوال الوقت، وتمزق المنطقة العربية والشرق الأوسط بسياسات تدمير وتخريب ممنهجة.
انفتاح على الآخر ومحو الأنا
ومنذ الألفية الثالثة، بدأت النظم العربية بتركيز الانتباه نحو المناهج العربية، وإدخال التعديلات اللازمة لتنقية تلك المناهج؛ مما قد تنطوي عليه من مواقف عدائية ضد الآخرين، فأُدخلت تعديلات شتى في مصر أولاً عقب معاهدة السلام مع «إسرائيل» ثم الأردن، ثم لحقت بهم سائر الدول العربية، واستهدفت تلك التعديلات بالأساس حذف الدروس المتعلقة باليهود والعداء ضدهم في مناهج التربية الدينية، وحذف فلسطين أو أجزاء منها لمصلحة الاعتراف بـ«إسرائيل» على الخريطة العربية في مناهج التاريخ والجغرافيا، وإضافة دروس ومواد علمية تحض على التسامح مع الآخرين، والتخلي عن أحاديث نبوية وآيات قرآنية تحث على الجهاد والقتال في سبيل الله، وإلغاء أشعار وأبيات تفتخر بالهوية العربية والإسلامية.
ومن ثم قامت فلسفة تلك التعديلات على اتهام مبدئي للأنا العربية والإسلامية بأنها تنطلق من ثقافة معادية للآخرين، ومنغلقة على الذات، وفي ذلك الإطار اعتبر الفخر بالنفس والاعتزاز بالهوية، محواً للآخر، وأصبح من أجل أن تتحقق غاية الانفتاح المزعوم على الآخر يجب أن يتم في المقابل محو الأنا التي هي في الحقيقة تمثل الهوية العربية الإسلامية وكل ما ينضوي تحتها أو يثير عناصرها في نفوس النشء، فأصبح التطوير هو بمثابة نكوص عن النفس واستسلام للأمر الواقع وهزيمة نفسية ثقافية أمام الآخرين.
تعزيز الهوية والانفتاح على الآخر
وتثير تلك الحقائق تساؤلاً مهماً بشأن العلاقة بين الهوية والنظرة للآخر، هل هناك تعارض حقيقي بين انتماء النشء حضارياً وثقافياً ودينياً وقدرتهم على الانفتاح على الآخر؟ وهل المناهج العربية حقاً تحتاج إلى تعديل وتطوير فيما يتعلق بالنظرة للآخر؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن فيما بين الأنا والآخر لدى النشء في المناهج العربية؟
ويمكن الإجابة عن تلك التساؤلات عبر الخطاب القرآني الهادي الذي أعلن مبدأ مهماً فيما يتعلق بتلك التساؤلات، إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، ففي تلك الآية الكريمة يُرسي الإسلام مبدأ التعارف بين الناس انطلاقاً من اختلافهم وتمايزهم، في إشارة مهمة بأن الاختلاف أصل وأن التعارف وسيلة إدارة ذلك الاختلاف؛ وهو ما يعني عدم التعارض بين الاختلاف والائتلاف بين الناس.
ومن ناحية ثانية، فإن المتأمل لمناهجنا العربية سواءً في الماضي أو الحاضر يجد بأن هناك حاجة ملحة لخضوعها لتطوير شامل، لكن ذلك التطوير يجب أن يتم استجابة لحاجات أمتنا العربية والإسلامية، وليس تحت ضغوط إملاءات خارجية وموائمات سياسية، هذا التطوير الحقيقي يجب أن يتم انطلاقاً من فلسفة تعليمية تربوية تفهم أهمية الهوية ومركزيتها في نهضة أي أمة، وتدرك بأن الانفتاح على الآخر يعني الاعتزاز بالنفس، وأن التسامح لا يعني الانسحاق تماماً أمام الآخرين، وأن الخصوصيات الثقافية هي العامل الأساس في تحقيق سُنة الله في الكون، وليست خطراً محدقاً يجدر اجتثاثه لمصلحة تغليب وتسييد ثقافة واحدة والخضوع لها دون سؤال أو مراجعة، وأن أسباب التقدم والازدهار كامنة في مجتمعاتنا لا يمكن استيرادها بوصفة جاهزة من الخارج.