منذ وقوع نكبة عام 1948 وإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني، ظلّت مخيمات اللاجئين هي العنوان الأبرز للقضية الفلسطينية، وأوضح الشواهد على جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وهي رمز التغريب والشتات والمعاناة، وجُرح النكبة النازف لما يقرب من ثمانية عقود، ودليل على التآمر الغربي على أرض الإسراء الذي أنتج هذا التهجير القسري الكبير وما استتبعه من مصادرة الممتلكات والضم والعزل والفصل والتجزئة؛ من أجل الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض وتفريغها من أصحابها.
تاريخ التهجيرِ والتخييمِ
وفقًا لتعريف «الأونروا: وكالة غوْث وتشغيل الفلسطينيين»؛ (فإن اللاجئين الفلسطينيين هم أولئك الأشخاص الذين كانوا يقيمون في فلسطين خلال الفترة ما بين يونيو 1946 وحتى مايو 1948، والذين فقدوا بيوتهم ومورد رزقهم نتيجة حرب عام 1948)، وهم أبناء القرى والبلدات الفلسطينية والذين أُجبروا على تركها على أثر هجمات العصابات الصهيونية المسلحة عليهم بعد قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر عام 1947، وقد تدهورت الأوضاع ثم تحولت إلى حرب شاملة عام 1948 بعد إعلان قيام دولة الكيان ورحيل المحتلّ الإنجليزي؛ حيث توجهت أعدادٌ منهم إلى كل من: قطاع غزة الذي صار تحت السيادة المصرية، والضفة الغربية التي صارت تحت السيادة الأردنية، وتوجه الباقون إلى كل من: الأردن وسوريا ولبنان.
إحصاءات
يبلغ مجموع مخيمات الفلسطينيين في الداخل والدول الثلاث المجاورة 71 مخيمًا، موزعة كالتالي: 24 مخيمًا في الضفة الغربية بها نحو 914 ألف لاجئ، 8 مخيمات بقطاع غزة بها نحو 1.4 مليون لاجئ، 13 مخيمًا بالأردن بها نحو 2.6 مليون لاجئ، 12 مخيمًا في لبنان بها نحو 483 ألف لاجئ، 14 مخيمًا في سوريا بها نحو 581 ألف لاجئ. أما المسجّل لدى «الأونروا» فهم 58 مخيمًا فقط: 19 في الضفة الغربية، 8 في غزة، 10 في الأردن، 9 في سوريا، 12 في لبنان، وبلغ عدد اللاجئين لدى نفس الوكالة والذين تقدّم لهم الخدمات نحو 6.4 مليون لاجئ فلسطيني، غير من لم يتم تسجيلهم؛ حيث لا يشمل هذا الإحصاء المهجّرين من عام 1949 إلى عام 1967 وما بعده، كما لا يشمل المستغنين عن خدمات الوكالة، أو الذين يقيمون خارج نطاق عملها.
واقع المخيمات
رغم مضي خمسة وسبعين عامًا على منشئها، ورغم كونها كبرى قضايا اللجوء في التاريخ المعاصر، ورغم صدور العديد من قرارات الشرعية الدولية بحقها –فقد بقيت قضية اللاجئين الفلسطينيين بلا حلول حتى الساعة، وتفاقمت –من ثَمَّ- مشكلات المخيمات، التي تعاني أوضاعًا بالغة الصعوبة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وصحيًّا وتعليميًّا، بما في ذلك عشوائية التنظيم، والازدحام والفقر والبطالة، وتهالك البنى التحتية، وافتقار الحد الأدنى من الخدمات الأساسية مثل المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والكهرباء، غير تقييد حرية التنقّل والسفر، وغير الحرب والحصار المستمر، وشن حملات الاعتقال اليومية، وتدمير المنازل والممتلكات، وغير القتل الجماعي والمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال، وقد أثّرت هذه الظروف الإنسانية الصعبة في الشباب بشكل خاص لتصعيد المواجهة ضد المحتلّ؛ باعتباره المتسبب في كل تلك المعاناة، وبسبب نهجه القائم على القتل والتهجير.
الحفاظ على الهُوية
السمة الأبرز للمخيمات الفلسطينية، في الداخل والخارج، هو الممانعة والحفاظ على الهُوية، والتصدي لمحاولات العدو الدائبة لإذابة تلك الهُوية والرضوخ لإملاءاته؛ فقد كرّس أبناء المخيمات -الذين وُلد غالبيتهم في ظل الاحتلال- حالة من المقاومة والاعتماد على الذات بمعزل عن المحتلّ؛ ما استلزم المزيد من الصبر والتحدي والصمود، والمزيد من العطاء والبذل، والاستمساك بالتراث الوطني ورفض محاولات تزييف العقل الجمعي الفلسطيني، نعم استُبدلت الخيمة –بعد حين- بالبيوت الطينية أو الأسمنتية، لكن ظل المخيم عنوان الهُوية الفلسطينية، شاهدًا على تمرّد عام وإصرار على تحقيق العودة إلى البلدات والقرى بعد تحريرها، وقد أكدت دراسات على وجود قدر كبير من «الصلابة النفسية» لدى سكان هذه المخيمات، رغم معاناتهم وضغوطاتهم، على مواصلة نضالهم، والاحتفاظ بهويتهم؛ لما يمتلكون من قدرات معرفية وانفعالية تمكّنهم من التصدي لتلك الضغوطات، والمحافظة على التوازن الانفعالي والتكيف النفسي والاجتماعي، والنجاح في إسقاط البرنامج الاحتلالي الهادف لإذابة الهُوية الوطنية.
محطات للعودة
لا زال «حق العودة» أحد الثوابت الفلسطينية التي يتداخل فيها الوطني بالشرعي، وإلى الآن وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن لم تنجح مساعي العدو في إسقاط هذا الحق من العقل الجمعي الفلسطيني، ولا زال اللاجئون يحتفظون بمفاتيح دورهم التي هُجّروا منها قسرًا، يتوارثونها أبًا عن جدٍّ؛ تعبيرًا عن تمسُّكهم بـ«حق العودة» حتى تحوّل «المفتاح» إلى رمزية كما «الكوفية»؛ للدلالة على الهُوية الفلسطينية، وتذكيرًا من السلف للخلف لئلا تصير القضية طي النسيان. لقد حرّمت عشراتُ الفتاوى الدينية التنازل عن حق عودة الشعب الفلسطيني المُهجّر إلى أرضه، ومن اعتقد حلّ ذلك فهو كافر مرتد، وقد وافقتها مواثيق وبيانات المنظمات الوطنية الفلسطينية، مؤكدة على حتمية العودة، وأنها إرادة شعب، وحق وطني وقانوني وإنساني غير قابل للانتقاص أو التقادم. ومنذ عام 1948 وإلى الآن لم تخمد آمال سكان المخيمات في العودة حتى أنهم يعلّقون في مداخلها يافطات ثابتة تبشِّر بعودتهم، بل مع كل حرب بين المقاومة والصهاينة يتجدد الأمل لديهم في أن تكون بابًا للعودة إلى بلداتهم وقراهم.
مرتكز المقاومة
مثّلت مخيمات اللاجئين في غزة والضفة الغربية محضنًا للمقاومة، تقبلتها وتفاعلت معها منذ البداية حتى صارت نبضًا ومرتكزًا لها؛ وقد تطور مجتمع المخيمات مع تطورات المقاومة وبالقدر ذاته؛ لتغدو المقاومة ثقافة لدى شعب المخيمات يشبُّ عليها الأطفال منذ صغرهم؛ بتعاطيهم مع الفعل المقاوم، وتمتعهم بالجهوزية والاستعداد النضالي العالي، وفي مرحلة تالية (مرحلة الشباب) انخرطوا في مسير المقاومة، وتحوّلوا من مفهوم الذل والعار إلى مفهوم الكرامة الوطنية والخروج من إطار الهزيمة النفسية، وفي عزمهم أنهم لن يُهجّروا من جديد كما يخطط المحتلُّ، فإن كانت ثمة هجرة أخرى فإلى موطنهم الأصلي، وكانت الانتفاضة الأولى والتي اشتعلت في أواخر عام 1987 وخرجت من «مخيم جباليا» أول اختبار لهذه المقاومة، وقد نجحت فيه بامتياز، واستردّت الكثير من حقوق الشعب الفلسطيني، وقضت على أسطورة (الجيش الذي لا يُقهر)، وأعادت القضية إلى الواجهة، ونجحت في خلق جيل واع يأبى النسيان، وقد عزّز ذلك أخلاقًا مجتمعية انتقلت إلى حيز التنفيذ تمثّلت في القدرة على الإبداع، والاكتفاء الذاتي، وكسر الحصار المفروض، والإصرار على استرداد الحق الفلسطيني مهما كانت التضحيات.