«إني جربتُ هذا الخراساني، وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدتُه حجرَ الأرض» (زعيم الدعوة العباسية إبراهيم الإمام متحدثاً عن قائدها العسكري أبي مسلم الخراساني).
لفتتني هذه العبارة التي جعلها الروائي والإعلامي أحمد فال الدين عنوانًا لكتابه الماتع، الذي تناول فيه جزءًا من تاريخ أفغانستان وواقعها، بأسلوب شيق يجمع ما بين قلم الصحفي وعبارة الروائيّ، وفي سياق الحديث عن حجارة الأرض، ومداميكها التي لا تميد، فإنني مفتونٌ بشخصيتين معاصرتين، ومعجبٌ بهما أيما إعجاب! وبعيدًا عن تصنيفات البعض الأيديولوجية عن أحد الرجلين أو كليهما، إلا أنهما نموذجان للصبر والجهاد والمجالدة، والإصرار على الوقوف في وجه العدو، مهما كانت الأثمان التي سيدفعونها، إلى جانب الإثخان في العدو، وغيرها من الصفات النادرة، التي قلما تجدها تجتمع في رجل واحد.
وإني لأزعم بأن هذين الرجلين العظيمين يشبهان بشكل لافت الرعيل النبويّ الأول، من حيث معارج التجلي، والعمل بتؤدة، والتضحية في سبيل الله، ومحاولة تحقيق النصر والدفاع عمّا يؤمنان به، والسعي إلى رفعة الأمة ومواجهة المحتل الغاصب، وكلما قرأ المرء عنهما، يزداد تعجبًا مما استطاعا تحقيقه حتى اللحظة، على الرغم من ضعف الإمكانيات وتكالب الأمم، واستهدافهما بشكل مباشر ومتكرر.
أما الأول، فهو طالب العلم البشتوني في قرية نودة الخلية من قرى قندهار، كأنها معزولة عن عالمنا هذا، فبقيت متشربة بالقيم الأصيلة ولم تفت بها القيم الدخيلة الممجوجة، فنشأ فيها متشربًا من معين الشريعة، متنقلًا بين حلق العلم، وقد ساء طالب العلم اليافع حينها، ما جرى مع بني جلدته من اقتتال داخلي وتسلط أمراء الحرب على البلاد والعباد، وعدوانهم على النساء واحتلالهم ما حرّم الله، فعلى أثر نجدته للمظلومين التف حوله الشباب المؤمن، وكبرت حركة طلاب العلم حتى أصبحت شوكة في حلق كل محتلّ، إنه المُلا محمد عمر مجاهد، أو الملا عمر، رحمه الله تعالى رحمة واسعة..
يورد أحمد فال شهادات عن الملا عمر، وكيف قضى سنوات تخفيه على أثر الغزو الأمريكي، بعيدًا عن أعين الأمريكيين، منشغلًا براديو قديم يستمع فيه للقرآن الكريم، وغيرها من تفاصيل حياته حتى وفاته، فلا يمكنك إلا أن تقدر روحه البطولية وحفاظه على كلمته في زمن عز فيه حتى الكلمات، وإنك لتخاله فارسًا من فرساننا الأوائل، الذين لا يقبلون الضيم ولا ينحازون إلى الظالم، مؤمن إيمانًا تامًا بالقضية التي يحملها، تحركه الشريعة الغرّاء والوحي الخالد، فمنهما استقى ثباته، وبينهما ومع البندقية قضى حياته، وبقي أصحابه بعد موته، وترسخ ذكره في العالمين.
أما الشخصية الأخرى، فهو طود فلسطين وقائد جحافل المجاهدين، فارس الظل ووزير دفاع شعوبنا المكلومة، والمنافح عن القدس والمسجد الأقصى الأسير، كلماته راجمات من لظى ونار، وكلماته قبسات من نوار، أجمع على حبه المؤمنون، ويلهج في الدعاء له ولصحبه الموحدون، كتائبه مظفرة، وجنوده أبسل من قسورة، ولعمري كفاكم وصفه، ولو غاب عنا رسمه، ففي قلوبنا حبه واسمه، إنه أبو خالد محمد الضيف، المجاهد الكبير، وقائد كتائب «عز الدين القسام»، لقبه المحتلّ بـ«الشبح»، وحاول اغتياله نحو 5 مراتٍ، وقد نجاه الباري تعالى، ليقود معارك التحرير بعونه وكرمه وفضله.
وإني أكتب عنه هذه الكلمات والاحتلال يصب القنابل على غزة صبًا، والشهداء في تصاعد مستمر، والضيف من أبرز المطلوبين، وعلى رأس قائمة المستهدفين، وعلى الرغم مما يعانيه من إعاقات في جسده، جراء عمليات الاستهداف المتتالية، ومحاولات الاغتيال المتكررة، فإن بصماته وعمله لا تخفى، وقد استطاع هو وأصحابه أن ينقلوا المعركة إلى قلب الأراضي المحتلة في «طوفان الأقصى»، وما زالت الكتائب المظفرة تدك دبابات العدو، بسلاح من صنع أيديهم، وتخوض معهم الاشتباكات العنيفة، وسط حصار، وتواطؤ، وغدر.
هذه نفحات من شخصيات مجاهدة عظيمة، وقبسات من أتون معركة جليلة، عن بعض حجارة هذه الأمة، وأركانها العظيمة، وجبالها الشامخة، لتعود قدوات يتبعهم النشء الجديد، فيكون عندنا ألف ضيف يسومون المحتلّ وأعوانه كل عذاب.