عند النوازل والكوارث، يقتضي العرف والمروءة والإحساس الإنساني أن يتوحد الناس على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم وغاياتهم، لإغاثة المكروب، وتضميد المجروح، ودعم المظلوم، ودفع الظالم، والسعي لرد العدوان، وإحلال الأمن، وبث الأمل في نفوس الضعفاء والمقهورين.
في تجارب الأمم والشعوب التي تمر بالمحن والمصاعب يتم الفرز بين أصحاب العقيدة الراسخة، والنفوس الضعيفة، ويبرز في هذه المناسبات لدى الضعفاء والجبناء خطاب التخاذل والهروب والاستسلام، وتبنّي وجهة نظر العدو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ويعزّ على النفس الأبية والشعور الحر أن يجد هذا الخطاب التخاذلي مجالاً حيوياً يعبّر فيه بكل صفاقة وتبجح عن نفسه، بينما يُحاصر الرأي العاقل، والفكر الصائب، والمنطق العملي السديد الذي يؤكد ضرورة الجهاد وتقديم التضحيات ودفع الثمن الباهظ مهما بلغ، «فمنْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ»، وفقاً للحديث الشريف الذي رواه سعيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرو بنِ نُفَيْلٍ، أَحدِ العشَرةِ المبشرين بالجنَّةِ، وَهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
الجهاد ودفع الثمن الباهظ من أجل العقيدة والأرض والعرض واجب شرعي وخلقي وإنساني
الجهاد ودفع الثمن الباهظ من أجل العقيدة والأرض والعرض وثروة البلاد والعباد واجب شرعي وخلقي وإنساني، وخاصة حين يكون لمواجهة عدو قبيح الفكر شاذ السلوك، لا يؤمن بقانون، ولا أعراف، ولا قيم إنسانية، وإيمانه الوحيد بالقوة الوحشية، ويجد مؤازرة من قوى غشوم تشاركه المنهج الإجرامي وتدعمه ليقتل ويدمر ويخرب بأحدث الأسلحة والذخائر الفتاكة، وبعضها محرم دولياً.
كيف يكون الموقف إذا كان الشقيق والأخ والصديق الذي تتوقع نصرته والوقوف إلى جانبك، يترك النازلة والكارثة ويمعن في تمزيقك وتبكيتك وتأنيبك وتأثيمك، ثم يدعي أنك سبب الكارثة والنازلة، ولا يدافع عنك، ولا يلوم العدو المجرم بكلمة، ويتجاهل مواضعات الحياة فيما ينبغي أن يكون بين الظالم والمظلوم؟
العجز الدولي
المسألة ببساطة أن الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة منذ عام 2006م يعاني من قهر الحاجة وعدوان المحتل وتآمر قوى الشر المحلية والعالمية، وعجز الجهات الدولية بمنظماتها وهيئاتها وقوانينها وقراراتها عن فك الحصار، أو توفير الحد الأدنى من الكرامة والحرية والأمل لأكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في سجن كبير، كما تضيّق عليهم الوحشية النازية البر والبحر والجو، وتلاحقهم في البيوت والشوارع والمخيمات والصحراء، حتى مياه المطر التي تنزل من السماء تعدها النازية اليهودية ملكاً لها ينبغي ألا يفيد منها الفلسطينيون ولا أطفالهم!
أهل غزة محاصرون بسبب اختيارهم للإسلام نظام حياة وجهاد وأمل، فاجتمع عليهم شياطين الإنس، لإبادتهم ومحوهم من الوجود؛ لأنهم لم يندمجوا في منظومة الثقافة الوحشية، ولم يتراضخوا لمنهج الشيطان الاستعماري، وينضووا تحت لواء الرق الإجرامي الغربي؛ فكان الحصار، وكان القتل، وكان التجويع والإذلال حتى يسلموا وطنهم، ويقبلوا بالتهجير والتغريب!
القوانين الدولية والإنسانية والشريعة الإسلامية تكفل حق الدفاع عن النفس ضد المحتل
وتكفل القوانين الدولية والإنسانية والشريعة الإسلامية حق الدفاع عن النفس ضد المحتل، وحرمانه من الاستمتاع بفريسته، ومعاقبته على جريمته، وهو ما يحاول الشعب الفلسطيني المظلوم أن يقوم به في ظل الحصار الخانق، والقهر المستمر، والدماء التي تسيل على مدار الساعة في القدس والضفة الغربية والقطاع، ويستخدم فيها العدو النازي الغاصب أحدث الأسلحة التي أنتجتها الترسانة الصليبية في الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية ضد الأطفال والنساء والمسنين وغيرهم من الأبرياء، ثم نجد الغزاة القتلة يتحدثون بصفاقة ووقاحة عن القتال من خلال قيم أخلاقية تراعي مبادئ الحروب والاشتباكات! أية أخلاق وأية مبادئ وهم يقتلون الأطفال والأمهات ويهدمون المنازل ويقصفون المستشفيات والمدارس والمساجد التي يحتمي بها الأبرياء؟ وتساندهم قوى الإجرام سياسياً وعسكرياً ودعائياً.
ملحمة بطولية
في ظل الوحشية النازية اليهودية المدعومة صليبياً، تواجه المقاومة الإسلامية عدوها، في ملحمة بطولية نادرة، وتؤلمه كما لم يؤلم من قبل، ولم تعد الأم الفلسطينية وحدها هي التي تبكي، وتشهد وحدها دفن أبنائها، فقد وصل البكاء إلى قادة القتلة النازيين وطال الموت أبناءهم وأقاربهم، وأصيب 100 من جنوده بالعمى، وتعرض 5000 آلاف آخرين للإصابة، منهم 2000 في عداد المعاقين كما قالت «هيئة البث الصهيونية» في الكيان، وتستقبل وحدة التأهيل بوزارة الدفاع 60 جريحاً يومياً، فضلاً عن 3 آلاف قتيل على أقل التقديرات، وبث الشعور لأول مرة بعدم الأمان والاطمئنان في الكيان الغاصب؛ مما دفع آلافاً لمغادرته نهائياً.
ثم كان من ملامح الملحمة البطولية للمقاومة الإسلامية انقلاب الرأي العام الدولي وخاصة في الغرب على مستوى الشعوب، وتحول كثير من مواطني العالم وانحيازهم إلى الشعب الفلسطيني، ودراسة مأساته، وإدراك الظلم الذي تعرض له على مدى عقود طويلة، وانكشاف جرائم العدو المتتابعة منذ 80 عاماً أو يزيد، وأكاذيبه وأخباره المضللة ودعاواه الفاسدة.
ثم كانت هناك يقظة الوعي الإسلامي لدى الأمة الإسلامية بالوجود الظالم للكيان الصهيوني ومقاطعة البضائع والسلع التي ينتجها أو يبيعها هو أو الداعمون له، وقد حققت المقاطعة نجاحاً كبيراً، حين فرغت المتاجر، وكسدت التجارة، وأخذ المعنيون في إنتاج البديل المحلي الذي يغني عن استيراد المنتج الداعم لقتل الفلسطينيين، والاستغناء عن علامته التجارية.
من ملامح الملحمة البطولية للمقاومة الإسلامية انقلاب الرأي العام الغربي ضد الكيان
والأهم من ذلك كله، استعادة العقيدة الإسلامية لحضورها في مواجهة العدو المتوحش الذي يرفع التوراة بيد والسلاح باليد الأخرى، وامتد الأمر للعالم الذي أخذ يتعرف على القرآن والإسلام بعيداً عن الآلة الدعائية الصهيونية وأتباعها في بلاد المسلمين التي تشوه الدين الحنيف، وتلصق به تهم الإرهاب والعنف والعدوان، وتحمله مسؤولية الخيبات والنكبات والأزمات.
الاستبداد الجبان
إن خطاب التخاذل تروج له عدة جهات، أبرزها أبواق الاستبداد الجبان أمام أعدائه، الشجاع ضد شعوبه، وعلماء السوء من ذوي «اللحى التايواني»، وحركات التمرد الطائفي، والخونة السافرون الذين يعادون الإسلام والمقاومة، ومرتزقة كل العصور الذين لا يبالون بما يقولون طالما يقبضون عائداً مادياً.
هؤلاء يقدمون خطاباً تخاذلياً جاهلاً يتناسى أبسط قواعد المنطق والتاريخ، خذ مثلاً ما يقولونه حين يتحدثون عن حجم الخسائر البشرية والمادية، متجاهلين معنى الشهادة والنصر، وصمود المقاومة النبيلة في وجه القتلة الذين لم يستطيعوا تحرير أسير صهيوني واحد، أو حين يزعمون أن المقاومة خسرت كثيراً حين تخلت عن مشروع اقتصادي واستثماري كبير، وهو أن تكون غزة مثل هونج كونج، أو سنغافورة! ونسوا أن المحاصر بالموت والجوع لعقدين من الزمان لا يعرف كيف يستثمر، وهو لا يستطيع السفر للعلاج خارج القطاع!
ولضيق المجال، نختم بشيء من تحليل الباحثة والكاتبة اليهودية في الكيان الصهيوني «داهليا شنايدن»، في مجلة «فورين أفيرز»، فقد قالت: جاءت هجمات «حماس»، في 7 أكتوبر الماضي، لتنسف تلك الرؤية «الإسرائيلية»، بل العقيدة، وأشارت إلى أن الكيان الصهيوني لن يعود أبداً كما كان، كل الافتراضات فشلت، لم يعد الزمن في صالحه، والسياسات التي أوصلت إلى 7 أكتوبر انهارت، وواضعوها ومنفذوها سيتغيرون، التوجه الأساسي، وهو الاتجاه يميناً وبسرعة سيستمر، المسألة ليست في الأشخاص، بل المجتمع الذي أصبحت تركيبته الأساسية تنحاز لليمين، إنه توجه تاريخي منذ هزيمة الكيان في حرب أكتوبر 1973م بدأ التحول، اعتبار الهدنة وما سبقها من الهزيمة المرة والوجع الهائل وما جرى من عدوان «إسرائيلي» على غزة بأنه نصر وانتصار يعد أكبر عملية نصب على النفس!
ليت الخطاب التخاذلي الذي يشيطن المقاومة ويتهمها بما ليس فيها يقرأ كلام «شاهد من أهلها»!