عندما استمعت لخبر استشهاد الشيخ البطل صالح العاروري، قفزت إلى ذهني عبارة «صناعة الموت» التي أطلقها الإمام الشهيد حسن البنا وجعلها عنوانًا لمقال له في مجلة «النذير» عام 1357هـ/ 1938م، الذي تناول فيه بطريقته السهلة المنطقية قضية الموت في سبيل الله (الشهادة)، والإعداد والاستعداد له ممن نوى وعزم وعمل له.
وهي نفس الفكرة التي يعمل لها بصدق كل من يطلب الشهادة ويستعد لها، وأحسب أن من بينهم الشيخ الشهيد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، فقد رأيت ذلك –بلا مبالغة- في عينيه الواثقتين وفي قسمات وجهه المطمئن ونصوص كلماته الصارمة (أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدًا)، وذلك في لقاء شاركت فيه ضمن وفد صحفي عربي من ثلاث دول، استمر أكثر من ثلاث ساعات، طرحنا فيه كل ما لدينا من تساؤلات وانتقادات، قابلها الرجل، يرحمه الله، بهدوء ورد عليها باستفاضة.
ويبرز السؤال: كيف قرأت هكذا ما في عينيه وقسمات وجهه وكلماته؟! أقول: أنبأني بها نبأ استشهاده وتحول جسده الطيب الطاهر إلى أشلاء، فنعم الميتة الشريفة! ونعم الصدق مع الله! وإن كلمات الشيخ حسن البنا التي نطالعها هنا قد ثبت صدقها بحادث استشهاده بعد أن تركوه ينزف في مستشفى قصر العيني لساعات، وكذلك كلمات الشهيد سيد قطب وغيرهم من دعاة الإسلام ومجاهديه في كل مكان، تظل الكلمات كلمات حتى يصدقها حدث الاستشهاد فيثبت صدقها، إنها عرائس الشمع التي تحدث عنها سيد قطب ثم دبت فيها الروح فور استشهاد صاحبها.
ولنتوقف مع نص المقال الذي نحن بصدده، حيث يقول الشيخ البنا: «أجل.. صناعة الموت… فالموت صناعةٌ من الصناعات؛ من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصوَّر الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص من عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدَّده الله.
ومن الناس جبناء أذلة؛ جهلوا سرَّ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلةً كذلك، لا كرمَ معها ولا نبلَ فيها، في ميدان خامل خسيس ضارع، وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة.
إن القرآن الكريم علَّم المسلمين سرَّ هذه الصناعة، وأرشدهم إلى فضائلها وأرباحها ومزاياها، وندبهم إليها في سور كثيرة، مثل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصف)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: 111)، إلى آيات كثيرة لا يحصيها عدٌّ ولا يتناولها حصر.
وقد عرف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف هذه الأمة، وعرفوا أنهم لن يتجاوزوا قدرًا قد أمضى وسلف، ولن يُحرموا أجرًا قد عظم وكُتب، ولن يستبقوا أجلاً قد قُدِّر وحُدِّد، فأحسنوا هذه الصناعة أيَّما إحسان، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل»، وهذا صحابي جليل يُستشهد فيسأله الله عما يتمنَّاه، فيتمنَّى أن يعود إلى الدنيا ليُقتل مرةً ثانيةً في سبيل الله، وهذا أبو بكر يقول لخالد في وصيته العظيمة: «يا خالد، احرص على الموت توهب لك الحياة».
ثم جاءت من بعد ذلك خلوف من المسلمين ركنوا إلى الدنيا في العبث واللهو، وأهملوا مواد القوة، وجهلوا صناعة الموت، وأحبوا الحياة، وتنافسوا على لقبٍ كاذبٍ، وجاهٍ زائلٍ، ومالٍ ضائعٍ، ومظهرٍ زائفٍ، وتعس عبد الدينار؛ عبد الدرهم؛ عبد القطيفة، فوقعوا في الذلة، واستمكن منهم العدو، وخسروا سيادة الدنيا، وما أعظم تبعتهم في الآخرة!، وحق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تداعت على المسلمين الأمم، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، وإنما الوهن حب الدنيا وكراهة الموت.
وكاد هذا الخلق الذليل يستبد بمشاعر المسلمين وعواطفهم، ويرين على قلوبهم وأرواحهم، ولكن رحمة الله التي يتدارك بها أهل هذا القرآن دائمًا لم تدعهم هكذا، فكانت «قضية فلسطين».
انجلى الصدأ عن المعدن النفيس، وبرزت النفس في ثوبها الحقيقي اللامع المجاهد، وتكشف الصدف عن لؤلؤه، وتمحَّص الذهب الخالص تحت نار الضغط الأثيم، وذهب فريق من أبطال المسلمين وجِدَّةٌ السلف يحسنون من جديد صناعة الموت، ويطلبون عن طريقها حقهم في الحياة، وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى كثيرٍ من شباب الإسلام والعرب، فخفقت قلوبهم، واهتزت أريحيتهم، واضطرمت بهذا الشعور القرى والشوارع والميادين والبيوت والمدارس والمساجد في عاصمة العباسيين بغداد، وعاصمة الأمويين دمشق، وفي القاهرة عاصمة مصر ومعقل صلاح الدين، التي أذاقت الصليبية أمرَّ الهوان في «حطين»، وقذفت بهم بعد ذلك إلى البحر، وردَّتهم عن بيت المقدس خائبين مدحورين، ولئن شاءت السياسة الموضعية أن تكبت هذا الشعور في بعض المواطن، وأن تُضعف من مظاهره العملية، فهي بذلك إنما تزيده قوة، وتزيد النفوس به تأثرًا وانصهارًا، حتى إذا انفجر فلن ينفع في كبته بعد ذلك جهد الجاهدين ولا حذر المُتخوِّفين.
أيها الفلسطينيون البواسل من شباب محمد وحماة بيت المقدس، صبر جميل، ولقد ربحتم كثيرًا، ولو لم يكن من نتائج ثورتكم المباركة الحقة إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس المسلمة، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة ورِبْح لكنتم الفائزين، ولكن أبشروا؛ فليس ذلك ربحكم فقط، ولكنكم ربحتم معه إعجاب العالم وثواب الله، وستربحون النصر المؤزر في القريب إن شاء الله، ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 35).
وأنتم أيها المسلمون في أقطار الأرض -والكلام ما زال للإمام البنا وكأنه يتحدث اليوم- اذكروا هذا الدرس جيدًا، واعلموا أنه جاءكم في أمسِّ أوقاتكم حاجةً إليه، وتلقيتموه والعالم على فوهة بركان، فإياكم أن ترجعوا بعد اليوم «غنمًا» يصرفها الذئب أنَّى شاء لتكون له في الحرب فداءً وفي السلم غذاءً، ولكن تجهَّزوا لتحرروا ولتدفعوا عن أنفسكم كل كافر خوان لا عهد له ولا ذمة ولا موثق له ولا أمان.
أيها المسلمون في أقطار الأرض..
إن فلسطين هي خط الدفاع الأول، والضربة الأولى نصف المعركة؛ فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، وليس قضية فلسطين قضية قُطْر شرقي ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا، ولا محلَّ للتدليل على حقوق العرب فيها، ولا محلَّ لإيضاح هذه الحقوق وبيانها، ولا محلَّ للأقوال والخطب والمقالات، ولكن الساعة ساعة العمل.. احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نِحَلهم.
تبرَّعوا بالأموال للأسر الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم -لا عذر لمعتذر- فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان.
ولا يهلك على الله إلا هالك؛ ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40)».
انتهى كلام الشيخ البنا.
وبعد، فقد سار الشيخ العاروري وإخوانه من مجاهدي فلسطين على طريق صناعة الموتة الشريفة؛ الشهادة في سبيل الله بنية صادقة وعزم قوي وإرادة لا تلين، وكان يضيف كل يوم لبنات جديدة على هذا الطريق، ومن خلال متابعتي لمداخلاته وحواراته وأحاديثه المتنوعة ومن كلام أسرته وخاصة السيدة الجليلة والدته، بدا أن صناعة الموت لديه تحولت إلى مشروع شهادة متكامل الأركان، استوفى كل المتطلبات، ويؤكد ذلك كله أن الرجل نال الشهادة التي كان يتمناها، وهكذا كل رفاق دربه الذين ساروا على الطريق وما زالوا وسيظلون منطلقين حتى التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة إن شاء الله.
رحم الله الشيخ الشهيد صالح العاروري وشهداء فلسطين وكل شهداء الأمة.
________________________
مدير تحرير «المجتمع» الكويتية، و«الشعب» المصرية- سابقاً.