كاتب المدونة: علي سلطان علي السيد
نظرًا لأن الإنسان هو بيت القصيد، ولبنة بناء هذا الكون، فإن غاية التشريعات والتكليفات والرخص هي حفظ هذا البناء الإلهي – الإنسان – كما في قوله صلى الله علية وسلم: «إنَّ هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه»(1).
ولذا، فإن مدار الضروريات الكلية الخمس وقطب رحاها هو حفظ الإنسان وحمايته من نفسه، فحرم قتل الإنسان لنفسه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَداً»(2).
وحماه أيضًا من القتل المعنوي لنفسه وذلك بالانشغال بالأفكار السلبية التي تهدم ولا تبني وتدمر ولا تعمر، فنهى الشرع عن الالتفات إلى الوساوس أو الاعتداد بها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته»(3).
وكذا أمره برد أخبار الفاسقين الذين يشيعون الأخبار الكاذبة لبلبلة الأفكار لإيقاد الفتن وإيقاع الضرر بين المسلمين، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
فكل هذه التدابير والاحترازات غايتها العظمى وهدفها الأسمى حماية الإنسان وحماية عقله وذلك بتمحيص وفلترة المدخلات النافذة إلى العقل (ممنوع الدخول) ليتبين الغث الهدام من الثمين البناء.
فكم من الأفكار الضارة والأخبار الكاذبة والشائعات الهدامة التي أرقت أصحابها وأقضت مضاجعهم وجعلتهم ريشة في مهب رياح الفتن، وجعلتهم عرضة للأمراض النفسية والجسدية! وما حدث كل ذلك إلا بعد السماح بدخول هذه الأشياء إلى القلب دون تمحيص.
وثمة أمر جلل يشغل فكر هذا الإنسان وهو علاقته بغيره من بنى جنسه.
فعلاقة الإنسان بغيره مدارها جلب الخير أو دفع الشر وهذان الأمران، بل الأمر كله، بيد الله تعالى، كما في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران: 154).
ومتى أيقنت أن الأمر بيد الله سبحانه، فإن الطريق الصحيح لجلب الخير أو دفع الشر يكمن في أن تكون في جوار الملك سبحانه، وذلك بحفظ حدوده، كما في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، والأمة من وراءه: «احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ»(4).
فإنك إن فعلت صرت في كنف الملك، من بيده مقاليد السماوات والأرض، صرت لا تخشى أحدًا، وصدق من قال:
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب ترابُ(5)
وكذا فقد طمأنك النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الجانب في قوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ»(6).
فارفع رأسك فإن لك ربًا جوادًا كريمًا قد ضمن لك رزقك، فلا تستجد أحدًا، ولا تخنع لمخلوق، واطلب الرزق من القوي المتين:
لاَ تَخْضَعَنَّ لِمَخْلَوقٍ عَلى طَمَعٍ فإنَّ ذلك وهن منك في الدين
واسترزق الله مما في خزانته فإنما الأمر بين الكاف والنون
إنّ الذي أنت ترجوه وتأمله مِنَ البَرِيَّة مِسْكِيْنُ ابْنِ مِسْكِيْنِ(7)
فإن وقع في صدرك الخوف من الآخرين على نفسك أو أهلك أو مالك فقد ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمن والطمأنينة في روعك حين قال: «وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ»(8).
بل إن الملك سبحانه طمأنك حتى من أشر خلقه (السحرة) فقال سبحانه: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102).
وحتى أولئك الذين يحملون هم حب الناس لهم، ويبذلون قصارى جهدهم ليصلوا إلى حب الناس ورضاهم، نقول لهم: إن حب الناس لك أو بغضهم بيد الملك سبحانه، فإذا أحبك الملك أحبك الخلق جميعاً، كما في الحديث: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببْه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»(9).
فأنت، أخي الإنسان، بين ماض مفقود وحاضر ممدود ومستقبل بيد علام الغيوب، بين ماض قد لملم أذياله بحلوه ومره، لا طائل من التفكير فيه سوى العظة والاعتبار.
فغاية دراسة تاريخ الأمم الغابرة وسير السابقين هي أخذ العبر، كما في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111).
فلا تكد خاطرك، ولا تأسفن على ما فات، فلا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب أو الوقوف على الأطلال، وإنما اجتهد في إصلاح حاضرك واللحظة التي تعيشها، فبناء الحاضر هو اللبنة الأساس في بناء صرح مستقبلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ»(10).
فتسلح بخبرات السابقين، وتجارب المتقدمين، ثم ابذل قصارى جهدك، ازرع خيرًا في حاضرك تجن خيرًا في مستقبلك، كما في قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60).
فإذا أيقنت بأن الأمر بيد الله، من بيده النفع والضر، بيده حب الناس لك، بيده مستقبلك، بيده مقاليد السماوات والأرض، فصن قلبك عن الانشغال بغير الله تعالى واطمئن، فللكون رب يصرف أموره ويسير أحداثه، فإذا ما دخلت بيتك فاخلع همومك وغمومك على عتبة دارك، فإذا ما وضعت رأسك على وسادة النوم فامنع دخول الأفكار السلبية (ممنوع الدخول) وأدخل كل ما إيجابي ونم قرير العين، فإن لك رباً يحفظك:
وإذا العناية لاحظتك عيونها لا تخشَ من بأس فأنت تُصان
وبكل أرض قد نزلت قفارها نم فالمخاوف كلهن أمان(11)
________________________
(1) «غريب جدًّا»، قال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (1/ 346): غريب جدًّا، وقال المناوي في «التيسير بشرح الجامع الصغير»: لم أقف له على طريق.
(2) أخرجه مسلم (109)، والبخاري (5778).
(3) متفق عليه.
(4) رواه الترمذي.
(5) أبو فراس الحمداني.
(6) رواه الترمذي.
(7) من قصيدة لا تخضعن لمخلوق على طمع، علي بن أبي طالب.
(8) رواه الترمذي.
(9) متفق عليه.
(10) رواه مسلم (2664).
(11) لم أقف على قائلها.