«الزمن في غـزة ليس عنصراً محايداً، إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة، الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو».. هذه الكلمات مقطع من قصيدة نثرية للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش منذ أكثر من 15 عاماً، يصف فيها صمود غزة وأهلها وأطفالها، لكن مع أحداث معركة «طوفان الأقصى» والعدوان «الإسرائيلي» الغاشم على سكان القطاع، ظهرت مجدداً هذه القصيدة، لأنها تحمل وصفاً دقيقاً للحالة الراهنة التي يعيشها سكان القطاع الصامدون، وكأن الشاعر كان يلقي قصيدته وعينه تستشرف المستقبل.
حين نتحدث عن الطفل في غزة، فهو أبعد ما يكون عن الصورة النمطية التي تحتفظ بها مخيلتنا لحياة الأطفال العاديين، فليس هو الطفل الذي يختار لعبته بنفسه من بين الدُّمى، وليس بالطفل الذي ينام على حكايات أمه قبل النوم، وليس هو الطفل الذي تُجهز له أصناف الطعام ذات القيمة العالية، وليس هو بالطفل الذي ينتظره «الباص» أسفل المنزل ليقلّه إلى مدرسته.
الطفل في غزة نشأ وسط الحصار الغاشم الذي يطوق أرضه ويخنقها ويحرمها من مقومات الحياة، وفي ظل احتلال غادر يتحكم بجرعات الماء التي تدخل إلى جوفه.
هو طفل خبُر معنى الوجع، ومعنى الفقْد، لم تخل حياة طفل من أطفال غزة من أحد مشاهد الحروب المتعاقبة على القطاع، ما منهم إلا واحتضن أمه خوفاً من أزيز الطائرات وأصوات الدمار ورائحة الدخان ونعي الشهداء.
الطفل بغزة نشأ وسط الحصار الذي يطوّق أرضه ويخنقها ويحرمها من مقومات الحياة
أحد أطفال غزة سئل: ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ فكانت إجابته دامية صادمة: «الصغار عندنا لا يكبرون»، هكذا يعبر بسجية طفل عن نظرة الصغار إلى الحياة التي يخرجون منها مع أحلامهم التي كانت.
تضم غزة ما يقرب من مليون طفل، وفقاً لتقديرات «يونيسف»، إذ تبلغ نسبة السكان دون 15 عاماً حوالي 40% من عدد سكان القطاع، وتشير إحصاءات وزارة الصحة بغزة إلى أن 9 آلاف طفل قد استشهدوا، ويمثل الأطفال مع النساء نسبة 70% من 7 آلاف مفقود، وقدرت منظمة الصحة العالمية مقتل 160 طفلاً يومياً في الشهر الماضي، هذا إلى جانب الآلاف من الأطفال المصابين جراء القصف المدمر.
مئات من الأطفال حديثي الولادة قد ماتوا لعدم وجود حضانات، وأكثر من ألف طفل أجريت لهم عمليات بتر أطراف.
الطفل في غزة سوف تجده في طابور طويل يمسك قصعة ليضع فيها حفنة من أرز أو دقيق يذهب بها إلى أمه الثكلى ليكون هذا زادهم طيلة اليوم، أو تجده ممسكاً بزجاجة فارغة يبحث عن قطرات من الماء الذي لم يتلوث بعد ليروي ظمأه، وغالباً يلجأ إلى شرب المياه الملوثة حتى صار أطفال غزة عرضة للأوبئة والأمراض المعوية والجلدية.
«ليس في غزة مكان آمن»، صارت هي الحقيقة التي يراها كل طفل في القطاع، فلا يعيش الأمان وإن احتمى بمسجد أو كنيسة أو مشفى أو مدرسة، كل شبر من الأرض بات مستهدفاً، لم يعد حضن الأب مكاناً آمناً، فبين لحظة وأخرى قد يتهاوى هذا الحصن الحصين.
أبناء الصمود
مقابل هذا البؤس والشقاء، يعيش صغار غزة حالة فريدة ليست لغيرهم من أطفال العالم من شدة البأس نتيجة إلف الشدائد، تسقط إلى جوارهم الصواريخ ليلاً، فيلعبون في الحفر التي أحدثتها صباحاً، تجاوزوا الصدمة الأولى لفقد عزيز، فصاروا يتحدثون من بعدها عن ضحاياهم كأنما سافروا عنهم ولم يموتوا!
صغار غزة يعيشون حالة فريدة ليست لغيرهم من شدة البأس نتيجة إلف الشدائد
انظر إلى عيون أطفال غزة التي امتلأت في أول العدوان قهراً وحزناً ورعباً، هي الآن تطل منها نظرة أخرى، تحمل استخفافاً بالموت، ونقمة على أعدائهم، ورغبة في أن يلحقوا بأحبتهم.
الطفل في غزة صنع على عين الله، ربّاهم الله بالمحن والشدائد، تحملوا ما لم يتحمله بشر، صاروا أصحاب قضية، تجد الطفل منهم يقوم بعمل المراسل الصحفي، وينقل أخبار العدوان وأحوال الناس إلى العالم، من علّمه هذا الشعور بالمسؤولية العامة؟
أعجب من طفل لم يتجاوز السنوات العشر، يسعفونه في المشفى وهو راقد يقول لهم: أنا بخير، ما بي شيء، أي طفل هذا؟! وأي روح يحمل؟!
طفلة أخرى في حدود 8 أعوام، تطلب من المسعفين في المشفى أن يهتموا أولاً بإصابات أخيها وأهلها؟ من علَّمها هذا الإيثار والتضحية والشعور بالمسؤولية؟!
وآخر يتحدث أنهم لن يفارقوا الأرض، وليفعل الصهاينة ما يشاؤون بهم، يتحدث عن استشهاد أو نصر!
من الطبيعي في مثل هذه الحال من العدوان المستمر الذي يأتي على الأخضر واليابس، أن ينصبّ تركيز الطفل واهتمامه على ما لحق به وأهله وأرضه من الدمار، لا على القائم بالعدوان، لكن في غزة الأمر مختلف، فالطفل واعٍ بما يحدث، واعٍ بطبيعة الحرب، واعٍ بأعدائه وأهدافهم، واعٍ بطبيعة العداء الصهيوني لبلاده، لكن كيف وصل إلى هذه الدرجة من الوعي؟!
عينٌ على الثأر
الإجابة بشكل مباشر هي ما اختزنته ذاكرته البيضاء من إجرام العدو الصهيوني، لقد نشأ وهو يسأل عن كل نقص وعن كل فقْد وعن كل خراب، ليجد أن الإجابة واحدة: العدو الصهيوني.
وعي الآباء والأمهات في غزة بالقضية وطبيعة الصراع ووقوف غزة في حلقوم الصهاينة أمام ابتلاعها فلسطين، قد انتقل إلى أطفالهم بشكل تلقائي، كل طفل في غزة يعلم من هو عدوه المتسبب بالخراب.
الاحتلال جعل كل طفل بغزة موتوراً ذا ثأر سوف تظل ماثلة أمام عينيه مشاهد قتلاه
لقد ارتكب الاحتلال أكبر حماقاته عندما جعل كل طفل من أطفال غزة موتوراً ذا ثأر، سوف تظل ماثلة أمام عينيه مشاهد قتلاه، لن ينسى هذا الطفل أباً له غاب تحت الأنقاض، أو أماً ماتت وهي تحضن أخاه الرضيع، أو أخاً لملموا أشلاءه، أو صديقاً يشاركه أحلام ولهو الصبا صار أثراً بعد عين.
لقد أنشأ العدوان جيلاً لن يعرف للخوف سبيلاً، قديماً كان القائد المسلم يرهب أعداءه برسالة «جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة»، إن أقصى ما يمكن أن يُخوَّف به الإنسان هو القتل، فماذا لو كان الذي أمامك لا يعبأ بالموت، بل يرى الموت راحة ولقاء بالأحبة.
يتحدث المشفقون عن احتياج أطفال غزة لعلاج نفسي، لكن أعتقد مع تتابع العدوان والدمار والشهداء، أن طفل غزة تجاوز مثل هذه المسائل اليوم، وتشكلت نفسيته على أساس أنه لا دواء له سوى الثأر والانتقام من العدو الصهيوني.