عقيدة «إسرائيل» منذ التأسيس وحتى الآن «ولسوف ترد إسرائيل على كل ضربة تتلقاها بسبع أمثالها» (جولدا مائير رئيسة وزراء «إسرائيل» الراحلة).
كان المفكر الجزائري مالك بن نبي مهموماً بقضية الاستعمار والتحرر، فراح يستقرئ حال الأمة عبر مراحلها التاريخية، ليصل في نهاية المطاف إلى داء أطلق عليه «القابلية للاستعمار، الذي ينطبع في المخيال الجمعي للشعوب المستعمرَة ويؤدي بها إلى الخنوع والقبوع والوقوع فريسة سهلة المنال في يد جلادها.
في كتابه «شروط النهضة»، يبرز بن نبي الدور الخفي للمستعمِر في إعادة التهيئة النفسية للشعوب المستعمَرة، تهيئة تولد في نفوس أفرادها روحاً جديدة تطبعها سمة الرضوخ والاتكالية والجبن وتكلس العقل والإرادة.
القابلية للتطبيع
علينا أن نطرح التساؤل اليوم، ومع هجمات غزة وتضارب مواقف المثقفين عن القابلية للتطبيع؛ باعتباره وجهاً أكثر خسة من حتى القابلية للاستعمار، والتطبيع مصطلح صهيوني، ظهر لأول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى؛ حيث طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة السياسية التي ستقوم بتطبيع اليهود، أي إعادتهم إلى «طبيعتهم» كأمة واحدة بدلاً من جماعات قبلية منتمية إلى أمم متعددة.
ومع الهجمة الصهيونية المتدثرة بالإمبريالية الغربية، تعدى المفهوم لوصف العلاقة مع العرب، وليعني الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني، وقبوله كحقيقة واقعة في المنطقة العربية وإن كان انتماؤه وولاؤه غربياً، من خلال: الاعتراف الكامل بشرعيته الاستعمارية الاستيطانية، وشرعية مشروعه ودولته اليهودية الخالصة، وإنهاء المقاطعة الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية، وإيقاف النشاط المعادي في المؤسسات والمنابر الدولية، والتعاون الإقليمي، ومن هنا جاء قبول بعض المثقفين العرب بدور قبول هذا النوع من التطبيع ومنهجياته.
المثقفون والتطبيع
مع بدايات اليقظة العربية ورحيل الاستعمار بداية القران الماضي، وعد العديد من المثقفين العرب بفجر عربي جديد؛ وكنا نرى من بعض التنويريين من يقدم التاريخ الإسلامي بشكل مغلوط وكأنه سلسلة من سفك الدماء أو ليالي النساء، وهؤلاء حين أمسك بعضهم بزمام السلطة ارتكبوا ما فاق كل ما انتقدوه من إخفاقات وعثرات التاريخ الإسلامي المحسوبة على أفراد لا الأمة، وهؤلاء نفس السلسال الذي نراه ورغم كل ما يلوكه من قوانين حقوق إنسان دولية، صامت باهت إزاء ما يجري في غزة من مذابح غربية «إسرائيلية»، فنراه يسارع للمساواة بين الضحية والجلاد، ثم يتخطى ذلك ويضع الوزر على المقاومة حين تنافح عن أرضها ويجعلهم أصل البلاء، ويتناسى ميراث انتهاكات الصهاينة لحقوق الفلسطينيين عبر عقود متواصلة.
وكل من يضع اللوم على الضحية هو في الواقع «متطرف» ويساهم في شيوع التطرف، وفي الوقت الذي يتشدد فيه الصهاينة ويعلنون أن دولتهم دينية يهودية ذات هوية حصرية عليهم، نرى الانبطاح العربي والسياسي يرفد داخل الخطاب الثقافي العربي الذي يتحدث عنه بعض السذج عن قبول الآخر ووجوب التعايش.
فهؤلاء يراهنون منذ البداية على الدور المنقذ للرسالة الغربية، ونسي هؤلاء ويلات الصراع الغربي مع العالم الإسلامي، والوجه الحقيقي للاستعمار البريطاني الفرنسي عبر القرون الماضية، برغم كل شعارات الإخاء والحرية والمساواة! ولا أدل من الثورة الجزائرية أو ثورة المليون شهيد، والقرصنة البربرية الأمريكية على أفغانستان والعراق حديثاً.
فكيف يرتضي مثقف أن يتحول لبوق لأمريكا وأعوانها في منطقتنا؟! وهذا هو ما نراه عرَضاً واضحاً لمرض القابلية للاستعمار والتطبيع، نتيجة النفسية التي تشعر بدونيتها أمام سطوة الغرب وبريقه، ولا ترى في عالمنا غير التخلف والفتن!
لقد زرع «بلفور»، و«اللنبي»، و«هربرت صمويل»، و«حاييم وايزمان» أدوات الاستعمار، زرعوا لنا المستوطنات والكيبوتس، قتلوا الفلاح الفلسطيني الذي كان يعارض الوجود الصهيوني لأنه يرفض بيع أرضه وميراث أجداده للمستوطنين.
درس الاستعمار والتطبيع
يسعى المبشرون بدولة التحضر «الإسرائيلية» في قلب الصحراء العربية لنيل رضا الدوائر العالمية، وجوائزها التي تحمل رايات السلام المزعوم، والتحرر، ولا عزاء لكل شهداء فلسطين؛ أطفالاً ونساء وشيوخاً، فهؤلاء المثقفون يهللون لأي بارجة أمريكية، وينتظرون أي فرصة للانبطاح أمام سادتهم الغرب ولوم أهل فلسطين بالمجان.
والحق أنه منذ توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979م و«إسرائيل» تحلم بسلام غير مشروط مع العرب لتحقيق مصالحها، ولكن جاءت «طوفان الأقصى» لتوقظ الحقائق وتجعلها كالشمس لا لبس فيها، وتجعل بفظاعة الرد الصهيوني واغتياله لعشرات الآلاف من الأبرياء وحتى ساعتنا تلك، أبشع ما عرفته البشرية من عدوان فاق الحروب العالمية، ولتنهي فكرة التطبيع الثقافي وإمكانيته.
منهج «إسرائيل» في عملية التطبيع
تسعى «إسرائيل» ومن يدعمونها من القوى الغربية (بريطانيا وفرنسا وأمريكا) لفرض تطبيع العلاقات مع العرب، لتحقيق أهدافها في المنطقة، من خلال غرس هذا الكيان الاستعماري الاستيطاني واعترافنا نحن الشعوب بوجوده داخل منطقتنا العربية.
وقد كان هذا السعي لتطبيع العلاقات مع العرب إستراتيجية طويلة المدى، واستخدم آليات متنوعة لتحقيق ذلك منها:
– اختلاق واقع تاريخي، يناسب الرواية الصهيونية لأسباب الصراع العربي، يلغي الرواية الحقيقية لأسباب الصراع، من خلال الادعاء أن فلسطين أرض يهودية، وأن الصراع بين العرب و«إسرائيل» ليس سببه احتلال فلسطين، لكنه يعود إلى رفضهم وجود الكيان الصهيوني داخل المنطقة العربية.
بناء على ما سبق يجري الترويج لأهمية استمرار الكيان الصهيوني ووجوب دعمه غربياً، مع استقطاب المثقفين الهامشيين لتبريره، ولا مانع من تفسيرات منحرفة لآيات قرآنية وتصوير أنها تؤيد التطبيع مع «الإسرائيليين» باعتبارهم أهل كتاب.
– التطبيع الرسمي مع الدول وفق معاهدات السلام والاتفاقيات الدولية الاقتصادية والأمنية، وفتح القنصليات والسفارات.
– التطبيع غير الرسمي عبر شركات اقتصادية وسياحية ودينية وتعليمية، وقبول موفدين صهاينة في بعض الدول العربية، وتبادل ذلك مع الكيان الصهيوني داخل الأراضي المحتلة.
– استخدام «إسرائيل» للوبي الصهيوني داخل أمريكا، وتحفيز الشركات العابرة للحدود من خلال شركات اقتصادية أوروبية وأمريكية تشترط على الشركات العربية وجود سلام مع «إسرائيل».
– فرض خطاب إعلامي موجّه لصالح «إسرائيل» على القنوات الفضائية وأدوات التواصل الاجتماعي.
– ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية على الأنظمة العربية، والتوحد حول الخطر الإيراني والخطر الإرهابي والقومي الداخلي، واستمرار حالة الانقسام الداخلي لدى الشعب الفلسطيني وإذكاء هذا الانقسام.
حرب غزة وأوهام التطبيع
ما جرى بعد العدوان على قطاع غزة هو عكس تماماً ما روّج له المشروع الصهيوني، من محاولات فرض التطبيع، وسنرى تراجع التطبيع الأكاديمي، وشيوع الخوف «الإسرائيلي» من الأنشطة السياحية داخل العالم العربي والإسلامي، وانتشار فكرة المقاومة وبما تشمله من حملات مقاطعة المنتجات الغربية الداعمة لـ«إسرائيل»، وتراجع شديد لصور التطبيع الفني والرياضي والثقافي، وانهيار مستقبل الاتفاقيات الأمنية والسياسية والعسكرية، وانهيار أحلام المستوطنات «الإسرائيلية» وتمددها.
ولا تزال القضية الفلسطينية عند المثقف العربي الأصيل القضية المركزية؛ فهي قضية ميراث وعقيدة وعروبة ودين، فمقاومة العدو لن تجدي بالحوارات والتفاوض، لأنه عدو تتشعب أفكاره المتطرفة على جذور عقائدية توراتية مزعومة وتحكمه حكومات يمينية تروج لأفكار دموية لاستئصال العرب وشيطنتهم، وهو ما يجعل «طوفان الأقصى» مناسبة لإيقاظ كثير من مثقفينا من غيبتهم وأوهامهم أيضاً!