تعد المؤسسات المجتمعية في أي حضارة رافداً مهماً تستمد منه قيمتها، ولا غنى لأي حضارة عن تلك المؤسسات مهما كان موقع الحضارة في سلم التاريخ، هذه المؤسسات تتخذ أشكالاً عدة وفق الواقع الذي تتشكل فيه، ووفق موقعها في سلم الزمن الذي تبرز فيه الحضارة.
يعدُّ الأزهر إحدى أهم المؤسسات الدينية التي ظهرت في الحضارة الإسلامية، فقد شيَّد الفاطميون الأزهر ليكون بوقاً لفكرهم الشيعي، وأبى الله تعالى إلا أن يكون بعكس ما قصدوا؛ فصار موئلاً لطلاب العلم من كل مكان يعلم وفق منهج أهل السُّنة.
انتهج الأزهر نهج التكامل لا التضاد، فلم يُعرف عنه أنه دخل في منافسة مع مؤسسة خادمة للأمة، بل تكامل مع مؤسسات الأمة، ولم يكن علماؤه ولا شيوخه الفاعلون يسعون لمنافسة المؤسسات في العالم الإسلامي أو الحطِّ منها.
الأزهر ظل يربي أبناءه على حمل هموم الأمة جيلاً بعد جيل
في صباح 7 أكتوبر 2023م، أعلنت «كتائب القسام» بدء عملية «طوفان الأقصى»، وهي المرة الأولى التي تكون المبادأة للعدو الصهيوني في البقاع التي يحتلها بآلته المجرمة، فقد اعتاد أن يعربد بحروبه التي يبدأها وقتما يريد، وبعد ساعات قليلة كان أسرى الكيان الصهيوني يُساقون كالقطيع، ولم ينس المجاهدون أن يخلطوا عمليتهم العسكرية الجادة المظفرة بشيء من الطُّرْفة؛ مما جعل حديث الغنائم حديث وسائل التواصل، يتندر بها المعلقون، ويبثون تحويل المدرعات لسيارات تجوب شوارع غزة تنشد شراء المخلفات القديمة بمكبرات الصوت، وصار حديثاً يتناقله المتندرون!
غداة إعلان بيان المعركة المظفرة، كان لا بد لردود الفعل أن تتوالى، وكان السؤال: وماذا بعد؟ فالكل يعرف إجرام الصهاينة، ونشأتهم الإرهابية وفق عقيدتهم التي تنظر إلى البشر بالدونية، والفتك بمن تمكنوا منه، التي عززها رجال دينهم، ففي أسفارهم: «وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار»(1)، وفيها: «وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة»(2).
كان الجميع يعلم أن العدو سينطلق كالكلب المسعور لا يفكر إلا في القتل والفتك بآلته المجرمة، وكان لا بد للأزهر أن يقول للشعوب كلمته، وأن يبين موقفه من العدو الذي غُرس في قلب الأمة كالشوكة، والسرطان الذي سرى في الأحشاء، ودعمته بلا حساب قوى الطغيان في العالم.
الأزهر ضد العدوان
منذ أمد بعيد والعدو يعرف مكامن القوة في مؤسسات الأمة، حيث تغذي الأمة وأفرادها بعناصر الثبات والقوة، وتجعلها نابضة دائماً بقضاياها.
علماء الأزهر حرَّموا زيارة القدس في ظل الاحتلال الصهيوني
جاء «نابليون» إلى مصر فأدخل جنوده الفاجرة إلى الجامع الأزهر، راكبين ومشاة، وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته(3)، فقد لقي من علماء الأزهر وطلابه من مصر ومن غير مصر أشد صنوف المقاومة، حتى كان مقتل «كليبر»، الحاكم الفرنسي، على يد سليمان الحلبي، طالب الأزهر السوري.
ظل الأزهر يربي أبناءه على حمل هموم الأمة جيلاً بعد جيل، حتى جاء هذا العدو الصهيوني، وكانت فتاوى العلماء الأزهريين ومواقفهم منه دائماً ضد وجوده وغرسه الفاجر، ففي فتوى لشيخ الأزهر حسن مأمون قال فيها: «ما فعله اليهود بفلسطين اعتداء على بلد إسلامي يوجب على أهليه أولاً رده بالقوة، كما يوجبه ذلك ثانياً على كل مسلم في البلاد الإسلامية»(4).
لقد حرَّم علماء الأزهر زيارة القدس في ظل الاحتلال الصهيوني، ورفض الشيخ عبدالحليم محمود مرافقة الرئيس أنور السادات في زيارة القدس، كما أفتى الشيخ جاد الحق بأن من يذهب للزيارة في ظل الاحتلال فهو آثم شرعاً، وكذلك كانت فتوى الشيخ سيد طنطاوي، والشيخ أحمد الطيب(5).
لم يقف الأزهر يوم 7 أكتوبر وقوف المنتظر للإملاءات، بل كانت فرصة سانحة، حيث ألقى في ذات اليوم بياناً للشعوب المسلمة وللعالم، ذكَّر الجميع بقضية الوطن السليب، والاحتلال البغيض، فأصدر على صفحته بياناً جاء فيه: «الأزهر يعزي العالم الصامت في ضحايا فلسطين الأبرياء.. يحيي الأزهر بكل فخرٍ جهودَ الشعب الفلسطيني.. الاحتلال وصمة عار في جبين الإنسانية والمجتمع الدولي، الذي يكيل بمكيالين».
أعفى طلاب فلسطين من المصروفات ووفر رعاية خاصة بهم
إن أهم نقطة في بيان الأزهر قوله: «أطول احتلال عرفه التاريخ الحديث، احتلال الصهاينة لفلسطين»، فلم يقع الأزهر في الخطأ الذي تقع فيه جل وسائل الإعلام من تسمية الكيان بالاسم الذي أطلقه على نفسه بلقب أحد أنبياء الله، وهي إشارة إلى أنه غير موجود، ثم بيَّن أنه ليس له أي حق في أي بقعة من أرض فلسطين، ثم هو احتلال عنصري صهيوني لا علاقة له بما يدعيه زوراً من نشدان «أرض الميعاد».
بث الأمل
ثم اختتم بيانه ببث الأمل قائلاً: «إن كل احتلال إلى زوال إن آجلاً أم عاجلاً، طال الأمد أو قصُر»، وأشاد البيان بالمجاهدين قائلاً: «يقف الأزهر صامداً كاملاً لأحرار فلسطين، الذين جاؤوا ليحيوا ثقتنا بأنفسنا؛ داعياً الله أن يعينهم على منابعه الإلهية من صبر وصمود وقوة وجبر خاطر».
كما خرج بيان لشيخ الأزهر، في 28 أكتوبر 2023م، جاء فيه: «لن يرحمَ التاريخ كل مَن تخاذلوا في الدفاع عن الفلسطينيين الأبرياء، وكلَّ مَن دعم استمرار هذا الإرهاب الصهيوني»، وهي كلمة للأنظمة المتخاذلة عن الدعم والنصرة.
ولم يترك الشيخ ممثل الأزهر مناسبة اجتماع المنظمات الدولية في مؤتمر المناخ، في ديسمبر 2023م، تمر دون إشارة لممارسات الإرهاب الصهيوني، فقال: هذه صرخة إنسان مذهول من هول آلة القتل الإرهابية الجهنمية، التي يعملها قساة القلوب في صفوف المواطنين الآمنين من النساء والرجال والأطفال والرضع والخدج».
لم يترك مناسبة تمر دون إشارة لممارسات الإرهاب الصهيوني
وعلى الجانب الإنساني، اتخذ الأزهر قراراً بإعفاء طلاب فلسطين من المصروفات، وتوفير رعاية خاصة بهم.
ثم لم تتجاهل إصدارات الأزهر التي تمثل صوته «طوفان الأقصى»، بل جاءت مقالاتها توضح الموقف التضامني للأزهر مع المعركة.
قد يقول بعضهم: وما فائدة البيانات التي تصدر، والفتاوى التي تقال، وليس لها وقْع أو رصيد أو أثر؟! وهذا الكلام مثله مثل من يسخر من القيادات التي تتابع المعركة من الخارج، ويراها تجلس في المأمن، وتترك الساحات للمقاتلين!
وهذا سوء تقدير لإدارة المعارك، التي تدار بوسائل شتى، السلاح أهمها، ولكن ليس السلاح وحده هو الذي يحسم المعركة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشاً، فإنه أشد عليهم من رشق النبل»(6)، فللمعركة وسائل لا تحصى في إدارتها، تبدأ بصرخة الداعي: يا خيل الله اركبي، وتنتهي عند فوهة المدفع، فكل شيء له دور بدءاً من الكلمة، وانتهاء برشقة الصاروخ.
_______________________
(1) سفر العدد (9: 31).
(2) التثنية (2: 16).
(3) تاريخ عجائب (2/ 220).
(4) فتوى بتاريخ 8 يناير 1956م، برقم (1114).
(5) https://2u.pw/jCIouU1.
(6) المعجم الكبير (4/ 38).