أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشِّتاء ربيعُ المؤمِن».
إنه تشبي ه بليغ، أوضح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما للربيع من بهجة وسعادة ورغبة في التنزه والعمل؛ ليؤكد أن فصل الشتاء يهيئ للمؤمن من الطاعات والعبادات التي تسعده في دنياه وأخراه، ما يهيئه فصل الربيع من سعادة وراحة نفسية، قال ابن رجب: «إنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنّه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات ويُنْزِّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه».
وقد أكد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل فصل الشتاء، وضرورة اغتنامه في الأعمال الصالحة، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «الشتاء غنيمة العابدين»، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «مرحبا بالشتاء، تنزل فيه البركة»، وقال الحسن البصري: «نِعم زمان المؤمن الشتاء..».
فما أهم الأعمال التي ينبغي أن نحرص عليها في اغتنام فصل الشتاء؟
1- صيام النهار:
الصيام في الشتاء فرصة عظيمة لمن أراد الأجر والثواب، وإثقال موازين الحسنات، بيسر وسهولة، فقد روى الترمذي في سننه عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ»؛ ومعنى الغنيمة الباردة أي السهلة؛ لأن حرارة العطش لا تنال الصائم في الشتاء كما يكون في الصيف.
كما أن الصيام في الشتاء فرصة لأصحاب الأعذار، ممن عليه قضاء صيام من رمضان، أو صيام كفارات بسبب أخطاء وقع فيها.
فعلينا أن نغتنم فصل الشتاء بالصيام على قدر الاستطاعة، وخاصة في الأيام التي أكد النبي صلى الله عليه وسلم صيامها، كالإثنين والخميس والأيام القمرية وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري.
2- قيام الليل:
الليل في الشتاء أطول منه في الصيف، وقد روى الديلمي عن ابن مسعود قال: مرحباً بالشتاء، فيه تنزل الرحمة، أما ليله فطويل للقائم، وأما نهاره فقصير للصائم، ولذلك حرص المجتهدون على الاستفادة من طول ليل الشتاء في القيام، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كانَ هو وامْرَأَتُهُ وخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أثْلَاثًا: يُصَلِّي هذا، ثُمَّ يُوقِظُ هذا، وقال ابن رجب: قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
فما أجمل أن يحرص المسلم على الاستفادة من ليل الشتاء في أخذ القدر الكافي من النوم، ثم الاستيقاظ لصلاة قيام الليل!
3- قراءة القرآن:
وهذه العبادة متصلة بعبادة القيام، فالمسلم يقوم الليل، ويجتهد في إطالة القراءة فيه، وهذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح «البقرة» فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح «آل عمران» فقرأها، ثم افتتح «النساء» فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريباً من قيامه.
وهكذا يكون حال المسلم في ليالي الشتاء خاصة، فعن عبيد بن عمير: أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.
4- الدعاء:
ففي الشتاء يتنزل المطر من السماء، والدعاء عند نزول المطر مستجاب، كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي السلسلة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر»، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند نزول المطر، فقد روى البخاري عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى المَطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا»، والصيب: ما سال من المطر وجرى، وفي صحيح البخاري أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد المطر قال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ».
فما أجمل أن يكثر المسلم من الدعاء عند نزول المطر، التماسا للإجابة!
5- الوضوء:
من العبادات المهمة في فصل الشتاء، وتأتي أهميته في صعوبته مع برودة الجو، ولهذا أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على عظيم أجره وثوابه، فقال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» (رواه مسلم).
فالوضوء على المكاره يسهم في محو الخطايا ورفعة الدرجات، لكن هذا لا يحدث إلا لمن أخلص لله تعالى، فأعانه ربه على القيام والوضوء رغم برودة الجو وصعوبة استخدام المياه.
ولا بأس للمسلم في جو الشتاء البارد أن يقوم بتدفئة الماء لدفع برودته من أجل التقوية على العبادة، وهذا لا يمنع من تحصيل الأجر والثواب.
6- صدقة الستر:
ففي فصل الشتاء يتعرض الناس للبرد الشديد، وقد لا يجد الفقير ما يستدفئ به من برد الشتاء، فمن وجد لنفسه رداءً يلبسه أو غطاء يستدفئ به فليذكر حال الفقراء، وليبادر إلى التصدق عليهم، فقد أخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كسا مؤمناً على عري كساه الله من خُضر الجنة».
7- تحصيل العلم:
فالمسلم يجد من الوقت في ليل الشتاء ما يأخذ فيه حظه من النوم والصلاة ومذاكرة العلم، قال أحمد بن الفرات: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر فأسرج، وانظر فيه فإنّك لا تنساه بعد إن شاء الله.
وهذا الخطيب البغدادي يقول: واعلم أنّ للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها، فأجود الأوقات الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار، وقيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح، وقال آخر: بالسفر والسهر والبكور في السحر.
8- التفكر والاعتبار:
ففي الشتاء تحدث كثير من التغيرات في حالة الجو، حيث تتنزل الأمطار ويعلو صوت الرعد وتكثر مشاهدة البرق، مما يجعل الإنسان في حالة من الخوف، والاعتبار بهذا التغير، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ للَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ.
ثم إن الشتاء يتنزل فيه المطر، الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، ففي هذه الآيات الكونية ما يدعو إلى التفكر والاعتبار.
9- المبادرة بالتوبة:
ففي عهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه حدث رعد وبرق شديد وظلمة عظيمة، فخرج على الناس خطيبًا، وقال: أيها الناس، إن الله يستعجلكم (أي بالتوبة)، فقولوا كما قال يونس عليه السلام: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 87)، وقولوا كما قال آدام عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)، ويروى عن أبي سليمان الداراني رحمه الله أنه كان إذا نزل في زمانه الثلج يبكي بكاءً شديدًا، فيقولون: يا أبا سليمان، لِمَ كل هذا البكاء؟ يقول: تذكرت يومًا تتطاير فيه الصحف تطاير الثلج عليكم.
فعلينا حين نخاف من تغيرات الجو أن نبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
10- التعرض للمطر:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، حيث جاء في حديث أنس بن مالك، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله ثوبه (أي كشفه) حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول، لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديث عهد بربه تعالى».
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن السماء أمطرت فقال لغلامه: أخرِج فراشي ورحلي يصيبه المطر، فقال أبو الجوزاء لابن عباس: لم تفعل هذا يرحمك الله؟ قال: أما تقرأ قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (ق: 9)، فأحب أن تصيبه البركة فراشي ورحلي.
وكان سيدنا عليّ رضي الله عنه وأرضاه إذا أمطرت السماء خرج، فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: بَرَكة نزلت من السماء لم تمسها يدٌ، ولا سقاء.
فهذه عبادات يمكن للمسلم أن يفعلها في فصل الشتاء، بغية تثقيل الميزان ومغفرة السيئات ورفعة الدرجات.
أما أهل الغفلة، فإنهم يقضون أوقاتهم في اللهو واللعب، حتى تضيع منهم أعمارهم، وهم يتعللون بصعوبة العبادات في الصيف بحرارة الجو، وفي الشتاء ببرودته.
فطوبى لمن جاهد واجتهد، واشتغل بطاعة ربه والإفادة من وقته، حتى فاز بطاعة ربه، وأمل في دخول جنته.