«الفن مرآة الشعوب»، مقولة تختزل أهمية ودور الفن في حياة الشعوب وفي تطور الحضارة الإنسانية، باعتباره إبداعاً بشرياً يظهر جانباً من الرؤية الإنسانية للعالم، ونظراً لدور الفن في بناء المجتمعات البشرية، حظي منذ القدم باهتمام صناع القرار السياسي، وارتبط بالإستراتيجيات القومية للدول في إطار السياسة الثقافية لكل بلد.
تشكلت بذرة العلاقة بين السياسة والفن منذ زمن طويل، فهي علاقة ممتدة منذ زمن أفلاطون، ومع مرور الزمن عندما انتقلت السلطة المدنية إلى الثيوقراطية الدينية وصارت الكنيسة هي المهيمن على السلطة؛ أصبح الفن تابعاً للكنيسة، التي سيطرت على أوروبا واستخدمته لإيصال رسالتها الدينية، ومع مجيء الثورة الفرنسية تحول الفن لخدمة الوافد الجديد ظاهره الثورة وباطنه منظومة القيم العلمانية التي أنشأتها هذه الثورة ليصبح أسير سلطات مفتتة وغير محددة، وإن كانت كلها تخدم نوعاً من أنواع الهيمنة على منظومة القيم البشرية.
وقد وعت الأنظمة الحاكمة على مر التاريخ أهمية الفن ودوره في التنشئة الاجتماعية، وارتباطه في ذات الوقت بالسياق الثقافي العام وبالوضع السياسي للبلد؛ لذا فإنها أولته اهتماماً خاصاً، وتشهد الفترة الناصرية في مصر على حالة التشابك الوثيقة بين الفن والسلطة الحاكمة للدرجة التي توازت فيها قامة مطربة كأم كلثوم بقامة رئيس الجمهورية وقتها، ليس فقط في مصر، بل في المنطقة العربية، في وقت المد القومي العربي الذي رافق طموحات الدولة الناصرية وتطلعات رئيسها لزعامة الشرق الأوسط.
الفن.. وخدمة المشروع الأمريكي
لعلنا لاحظنا التوظيف السياسي للفن من جانب أمريكا على وجه التحديد في «هوليوود»، عبر سلاسل أفلام مهدت لكثير من الأحداث، وساهمت في رسم صورة ذهنية عن الإسلام والعرب والمسلمين ليس في أمريكا وحدها، بل في الغرب عموماً، بل لدى قطاعات عريضة من المسلمين، فالصورة التي تقدمها الدراما السينمائية والتلفزيونية تنطبع عادة في ذهن المشاهد، وتسهم في تبني مواقف منحازة للقضايا التي تعرض على الشاشة، فالدراما التلفزيونية والصورة السينمائية كلها عوامل تساعد على تغيير سلوكيات الأفراد في المجتمع، وتعمل على تشكيل الوعي العام للجماهير، وتسهم في تكوين الصورة الذهنية من الناحية السياسية لدى الأفراد والجماعات والدول.
القوة الناعمة والأمن القومي
في عام 1948م، عرف الأكاديمي هانز مور غنثاو في كتابه «السياسة بين الأمم» الأمن القومي بأنه الحفاظ على سلامة الأراضي الوطنية ومؤسسات الدولة، وهو مفهوم يقتصر على أمن الدولة والحدود والتركيز على قوت الدفاع والأمن.
تطور المفهوم بعد ذلك لدى بعض العلماء إلى أن الأمن القومي هو «قدرة الدولة على خلق الظروف التي تساهم في التوحيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأمة وضمان سلامتها الإقليمية واكتساب القدرات اللازمة للحفاظ على هذه الظروف وحماية حرية الاختيار والقدرات من أجل البقاء في بيئة أمنية غير متقلبة».
المفاهيم الأولية لمنظومة الأمن القومي ارتكزت على أمن الدولة القُطرية وسلامة أراضيها، وأضيف إليها في دولنا إبقاء منظومة الحكم والحفاظ على سلامة الحاكم وعدم الخروج عليه، وربطت بين سلامة وبقاء الحاكم في منصبه وعدم تداول السلطة، واستقرار الدولة القُطرية.
ما إن وقع انقلاب يوليو 1952م حتى سارع بعض المنتجين إلى عرض بضاعتهم على رجال العهد الجديد، فوصف أنور وجدي فيلم «دهب» الاستعراضي الذي يناقش قضية الأب الفيزيائي والأب بالتبني بقوله: «فيلم نظيف في عهد نظيف»، فرغم امتلاء الفيلم بالراقصات، فإنه خلا من مشاهد القُبلات، فاعتبره وجدي فيلماً نظيفاً!
بينما أضاف فيلم «الحموات الفاتنات» لنهايته شعار الدولة الجديدة «الاتحاد والنظام والعمل»، بالرغم من أن الفيلم كان يدور حول صراع الحموات التقليدي على السيطرة!
أما فيلم «اللص الشريف» للفنان إسماعيل يس كان الأكثر نفاقاً، فقد أنهى الفيلم الذي لا علاقة له بأي نوع من أنواع النضال بمونولوج يمجد ضباط يوليو والجيش ومحمد نجيب.
بمجرد أن استقر الأمر لعبدالناصر وأطاح بمحمد نجيب، بدأت مرحلة جديدة في استخدام الفن والدراما والفنانين، والصورة السينمائية، فلم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل أصبحت «قوة ناعمة» في يد السلطة الجديدة، واتجهت الدولة لاستخدام هذه القوة الناعمة لتروج لقوتها، وانتصاراتها الزائفة، وتعزز مفهوم أن ما قامت به ثورة على فساد الملك، وبدأت سلاسل أفلام تهيل التراب على العهد البائد، كما أطلقوا عليه.
كلما دخلت أمة لعنت أختها!
برحيل عبدالناصر وتولي السادات الحكم كانت أمامه عدة معضلات يحتاج إلى حلها؛ أولها تفكيك البنية التي أقامها عبدالناصر، وعلى رأسها الاتجاه نحو الأمريكان بدلاً من الروس، وتعزيز التقارب المصري الأمريكي، وإسراع الخطى نحو إخراج مصر من معادلة الصراع العربي «الإسرائيلي» بمنطق الخطوة خطوة التي رسمها هنري كسينجر.
أراد السادات أن يصنع توليفة خاصة بدولته التي راح يؤسسها، فهو من جهة يريد أن يحافظ على مجموعة قيم مجتمعية ترتبط بهوية الشعب المصري، ويبقي على بعض المقاومة الداخلية تمكنه من المراوغة والضغط، وتجعل في يده بعض الأوراق التي يفاوض بها، ومن ناحية أخرى يريد انفراداً بالحكم وديمقراطية شكلية تخفف عبء معارضته داخلياً، ويظهر بها أمام العالم كما لو كان لديه مؤسسات حكم حقيقية، فاخترع شعار «دولة العلم والإيمان».
الدراما الغربية والدينية لبناء المرحلة
كان على السادات أن ينتقد الحقبة الناصرية ويعدد من مساوئها، ولم يكن ذلك متاحاً عبر الدراما التلفزيونية بسهولة؛ لأسباب متعددة، منها طبيعة وولاءات كتَّاب الدراما التلفزيونية في ذلك الوقت؛ لذلك لجأ إلى السينما، وتعددت الأفلام التي تناولت الفترة الناصرية بالنقد من خلال جيل من السينمائيين الجدد الذين تخرجوا حديثاً من معهد السينما، فكانت أفلام «طائر الليل الحزين»، «أغنية على الممر»، «زائر الفجر»، «ميرامار»، «الكرنك»، «وراء الشمس».
وكان عليه أن يرسخ مفهوم الهيمنة الأمريكية وتصدير فكرة السور من الأمريكي، ويؤكد مقولته التي أطلقها أثناء قبوله بوقف إطلاق النار في أكتوبر 1973م عن قدرة أمريكا وامتلاكها لأوراق اللعبة في الشرق الأوسط، وأن حل القضايا العربية بأيديها، فراح التلفزيون المصري يشتري المسلسلات الأمريكية من نوعية «رجل بستة ملايين دولار»، «الرجل الخارق»، «المرأة الخارقة»، وهي حلقات تقدم الرجل الأمريكي الذي يستطيع أن يسيطر على الجريمة ويهزم الأشرار، ونفس الشيء بالنسبة للمرأة الخارقة؛ وهي الدراما التي رسخت في أذهان المصريين القدرات الخارقة للخالة أمريكا!
ولم ينس السادات أن يبقي في خلفية رؤيته للدولة على شعار «دولة الإيمان»، فازدادت في تلك الفترة وتطورت المسلسلات التاريخية (التي عرّفوها بـ«المسلسل الديني»)، وانطلقت سلسلة «محمد رسول الله والذين معه» وتترها المشهور بصوت ياسمين الخيام، وصورت ابتهالات غنائية لعبدالحليم، والنقشبندي، وغيرهما من المطربين والمنشدين.
مبارك.. واضطراب الرؤية
لم يكتمل مشروع السادات الذي خطط له جيداً، فباغتياله تم تغيير جزء من مسار المشروع الساداتي للدولة العلمانية المتدثرة بغطاء ديني، وجاء مبارك دون مشروع؛ فتخبطت الرؤية إلى حد كبير، فمن ناحية ازداد سعار العلمانية والهجوم على الإسلام، ومن ناحية أكمل مبارك مشروع التقارب من أمريكا والتطبيع مع الكيان الصهيوني ومضى ضد التيار الشعبي.
الغريب أن مبارك هاجم مظاهر الانفتاح في عصر السادات، وراحت الدراما التلفزيونية تهاجم الانفتاح والتطبيع، والتقارب مع العدو وتغذي فكرة مقاومة هذا الاتجاه، فضلاً عن الدراما التي كانت تنتج من ملفات المخابرات التي ترسخ مفهوم العداء مع الكيان الصهيوني والصراعات المخابراتية بين البلدين!
ومن ناحية أخرى، بقيت الدراما التاريخية/ الدينية تقدم في رمضان، وشهدنا منها أعمالاً مؤثرة وقوية، مثل «عمرو بن العاص»، «عمر بن عبدالعزيز»، «هارون الرشيد»، «الكعبة المشرفة».
وفي المقابل، بدأت مرحلة من الهجوم على المتدينين وتصوير كل من انتمى لتيار من تيارات الحركة الإسلامية كإرهابي مستعد لقتل الناس دون سبب مفهوم!
استطاعت الدراما السينمائية والتلفزيونية في فترة الثمانينيات والتسعينيات وحتى ثورة يناير أن تصيب المجتمع بنوع من الفصام في الشخصية، فمن ناحية هو مجتمع ظاهرياً متدين بكل طوائفه (مسلمين، مسيحيين)، ومن ناحية أخرى هو مجتمع يكره فئات معينة من المتدينين، ويعتبر سلوكهم وما يحملون من فقه نوعاً من التطرف!
وتحول المجتمع بسبب غياب البوصلة إلى حالة من المزيج غير المتجانس الفاقد للهوية، لنصحو ذات يوم على ميدان التحرير وقد امتلأ بجماهير جاءت تبحث عن حريتها برؤى مختلفة دون مرجعية هوياتية تحقق لها الحد الأدنى من التقارب وتوحيد وجهات النظر، فجاءت كلها ولديها شكوك في الانتماء للوطن والانتماء للثورة، لينتهي المشهد بهزيمة يناير!