القوى المعادية للإسلام والمسلمين لا يستفزها ولا يثيرها رجلٌ عابد متبتل في صومعته، أو جماعة من المسلمين منضوون في طريقة صوفية، أو ما شابه ذلك من أعمال البر والصلاح المعزول، وإنما يستفزها وجود الإسلام على الصعيد الدولي، لا سيما إذا كان في صورة خلافة أو وحدة سياسية جامعة للأمة الإسلامية.
إن مشكلة الغرب الحقيقية هي مع الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والحضاري الشامل، وهذا هو السر الذي جعل تلك القوى تخطط وتستميت في القضاء على الخلافة الإسلامية حتى لو كانت صورة أو شكلاً فاقداً لأهم مضامينه، وهو ما تحقق لتلك القوى في 3 مارس 1924م، حيث أوعزوا إلى مصطفى كمال أتاتورك بتنفيذ الخطة التي رسموها سلفاً مقابل تمكينه من حكم تركيا.
وهم إلى يومنا هذا لا يسمحون بعودة أي صورة من صور الخلافة الإسلامية، أو الوحدة السياسية للمسلمين التي تجسّد الجامعة الإسلامية في شكلها السياسي.
هذه هي الخلفية التي تفسر شدة معاداة القوى الغربية للأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، المتماهية مع روح الأمة وتطلعاتها، مهما كان مستوى تشبثها بالديمقراطية والطابع السياسي المدني والحضاري، فهم يتوجسون منها لأنها تذكّرهم بقوة الإسلام والمسلمين على الصعيد الدولي حين تجمعهم جامعة سياسية واحدة.
مفهوم الخلافة
الخلافة في لغة العرب من مصدر تخلف فلان فلاناً، إذا تأخر عنه، وإذا جاء خلْفَ آخر، وإذا قام مقامه، ويُقال خَلَفَ فلانٌ فلاناً إذا قام بالأمر عنه، كما أنها تعني النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه.. إلخ، وكلمة خلفاء جمعٌ مفرده خَليف، لكن استُخدمت كلمة خليفة تجوزاً(1).
ويذهب الإمام المودودي إلى أن الخلافة، وفق التصور العام الذي جاء به القرآن الكريم، تعني: أنّ كلّ ما يناله الإنسان على وجه الأرض من مواهب وقدرات وطاقات، ليس إلا هبة من الله تعالى، فقد جعل الله الإنسان في منزلة يستخدم فيها الهبات والمزايا الممنوحة له من الله في أرضه وفق منهج محدد هو منهج الله(2).
والذي يظهر لنا أنّ هذا المعنى العام قريب جداً من المعنى اللغوي، بل منبثق عنه، غير أن هذا المعنى أجدر بأن يُسمى استخلافاً، وكما هو معروف في أدبيات الفكر الإسلامي، فإنّ الاستخلاف منهج شامل في التصرف الإنساني، سواء في سياسة نفسه؛ فرداً ومجتمعاً، أو في تعامله مع الكون، أو في صلته بخالقه، إذ إن جوهر هذا الاستخلاف إنما ترقية الذات الإنسانية عبر التفاعل مع الكون على خط العبودية لله تعالى(3).
وفي الاصطلاح، حظيت الخلافة -نظراً لمقامها في مرجعية المسلمين الذهنية- بتعريفات كثيرة متنوّعة، لدى قدماء مفكري وعلماء المسلمين، أو معاصريهم، على حد سواء.
فالعلَّامة ابن خلدون يذهب إلى أنها تعني «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(4).
وقال الإمام البيضاوي: «الخلافة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول صلى الله عليه وسلم، في إقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة الملة، على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة»(5).
ومن العلماء المعاصرين، عرّفها الشيخ المفسر محمد الطاهر بن عاشور، صاحب تفسير «التحرير والتنوير»، بأنها «خلافة شخص للرسول صلى الله عليه وسلم، في إقامة الشرع وحفظ الملة على وجه يوجب اتبّاعه على كافة الناس، فهي عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية، وهي ولاية ضرورية لحفظ الجامعة، وإقامة دولة الإسلام على أصلها، ومما يجب علمه هنا أن الإسلام دينٌ معضّد بالدولة، وأن دولته في ضمنه، لأن امتزاج الدين بالدولة، وكون مرجعهما واحداً، هو ملاك قوام الدين ودوامه ومنتهى سعادة البشر في اتباعه، حتى لا يحتاج الدين في تأييده إلى الوقوف بأبواب غير بابه»(6).
فالخلافة بهذا المعنى ليست لقباً يُعطى لصاحب مقام كبير، ولا طريقاً يربط النفوس في الدين بأسلاك نورانية فحسب، بل خطة حقيقية تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها بتدبير مصالحها والذبّ عن مصالحها وتأمين مستقبلها(7).
إنّ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حريص أشد ما يكون الحرص على تأكيد منزلة الدولة في الإسلام، خاصة عندما تكون في صورة خلافة عامة، تُضمن بها شوكة الإسلام وهيبته، ويتحقق بها مقصد من مقاصد وحدة الأمة المسلمة، ولذلك لم يلتزم الصمت عندما أخرج علي عبدالرازق للناس كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، منكراً فيه الأدلة الشرعية التي تنصُّ على الدولة والخلافة في الإسلام، ومنكراً أيضاً إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام أو الخليفة وضرورة أن يكون للأمة حاكم يمثل وحدتها ويرعى مصالحها، حيث ناقشه وردّ عليه بكتاب نفيس عنوانه «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم».
ويُلاحظ أن الخلافة أُطلقت في العرف العام على الولاية العامة، التي تخضع في مباشرة أعمالها وشؤونها العامة لأحكام الدين ومقرراته، وكان أول مَن أُطلق عليه لقب خليفة في تاريخ المسلمين هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه، فهو أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته.
وقد منع جمهور الفقهاء أن يُقال: خليفة الله، ونسبوا قائل ذلك إلى عدم العدالة إلى جانب أوصاف أخرى سيئة كلها، وعلة ذلك أن الاستخلاف لا يكون إلا حال الموت أو الغيبة أو العجز، والله تعالى منزّه عن ذلك، وقد قيل لأبي بكر الصديق: يا خليفة الله! فأنكر ذلك، وقال: لست بخليفة الله، ولكنني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يعني أنّ السلطة في الإسلام سلطة مدنية، بخلاف سلطة الإكليروس في المسيحية.
وقد أُطلق على مقام ولاية المسلمين العامة عدة نعوت وألقاب، أبرزها: الخلافة، والإمامة، وإمارة المؤمنين، وهي كلها مترادفة، تؤول إلى معنى أو دلالة واحدة؛ هي: رئاسة المسلمين العامة التي تخلُف النبي صلى الله عليه وسلم، في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
والإمامة في اللغة من مصدر «أَمَّ»، والإمام كلُّ مَن اقتُدي به، وقُدّم في أمر من الأمور، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، والقرآن إمام المسلمين، وإمام كلّ شيء والمصلح له، والإمامة إذا أطلقت حُملت على الإمامة العظمى، فلا يوصف بها حينئذ إلا الخليفة، أما إذا أريد التقييد فلا بد من الإضافة، المبيّنة للمراد، كأن يُقال: إمام المحدثين، أو إمام الفقهاء، أو إمام الأدباء.. إلخ(8).
الخلافة في الخطاب الإسلامي المعاصر
اهتمّ المنتمون إلى الخطاب الإسلامي العاصر بموضوع الخلافة من عدة منطلقات، أهمها: صلتها الوطيدة بوحدة الأمة، وأيضاً لكونها إطاراً يجعل للأمة المسلمة وجوداً دولياً فاعلاً بين أمم المعمورة، وقد وضع الإمام أبو الأعلى المودودي مجموعة من الخصائص يجب ألا تتخلف في حكومة الخلافة الإسلامية، وهي كما يلي:
– أن تكون الحاكمية فيها خالصة لله وحده.
– أنها تتفق مع مبادئ الديمقراطية في ضرورة أن تتكوّن أو تتغيّر أو تُسيّر برأي الشعب، إلا أن الشعب ليس مطلق العنان فيها، لأن هوى الشعب ومزاجه يكون منضبطاً بقانون الله ورسوله.
– أنها دولة فكرية يدير أمورها مَن يؤمنون بأفكارها ومبادئها ونظرياتها الأساسية، أما مَن لا يؤمنون بها ويرضون بالبقاء داخل حدودها فلهم من الحقوق ما للمؤمنين بمبادئ الدولة وأفكارها.
– أنها دولة تقوم على أساس المبدأ فحسب، لا على أساس عصبيات اللون أو الجنس أو اللغة أو الحدود الجغرافية.
– الروح الحقيقية لهذه الدولة اتباع الأخلاق وتسيير الأمور على أساس من تقوى الله وخشيته، وأولى الأمور بالاهتمام والرعاية عند انتخاب القادة وأهل الحل والعقد في هذه الدولة هي نظافة الأخلاق وطهرها.
– تتمثل المهمة الرئيسة لحكومة الخلافة الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق العدل الاجتماعي وإزكاء الخير، واستئصال الشرور والمفاسد.
– اتفاق الفرد والمجتمع والدولة على هدف واحد، وعدم ترك أي فرد مواطناً كان أو رعية، محروماً من حاجاته الأساسية ولوازم حياته الضرورية(9).
إن ما يمكننا أن نستنتجه أنّ المنتمين إلى الخطاب الإسلامي المعاصر يؤمنون إيماناً جازماً بأهميّة وضرورة الدولة في الإسلام، لأنها الضامن لتنفيذ أحكام الإسلام العامة -غير العبادات الفردية- بل إنّ الشيخ محمد الغزالي يذهب إلى أنّ العبادات الفردية بحد ذاتها قد تذوي في غياب الدولة، يقول: «في الإسلام عبادات شخصية يؤديها الأفراد أداء مباشراً كالصلاة والصيام وما يقرب منهما، وفيه كذلك عبادات اجتماعية يؤديها الأفراد بوساطة الدولة كالجهاد والقصاص وإيتاء الزكاة وما شابه ذلك.. والأصل في هذا الضرب من العبادات، أنه لحفظ كيان الجماعة الإسلامية وتأمين سلامتها في الداخل والخارج.. إن الإسلام عقيدة وأنظمة وأعمال؛ ووظيفة الدولة محددة في القرآن والسُّنة تحديداً لا يحتمل لبساً، ويوم يفقد الإسلام سيطرته على الحكم فستبقى الكثرة الساحقة من تعاليمه حبراً على ورق؛ لأن تنفيذها عن طريق الفرد مستحيل، وليست العبادات الاجتماعية هي التي ستذوي فقط، بل العبادات الشخصية المحضة من صلوات واستغفارات وصيام وحج وغير ذلك، إنها عندما تُحرم كنف الدولة تنكمش وتموت! فكيف إذا تجهّمت لها الدولة ونبذت ذويها وحرمتهم رعايتها..»(10).
ولذلك تصدى لصديقه خالد محمد خالد يوم أخرج للناس كتاباً عنوانه «من هنا نبدأ»، أنكر فيه وجود الدولة في الإسلام، حيث ناقش أفكاره وردّ عليه بكتابه المشهور «من هنا نعلم»؛ فأثمرت جهوده وتراجع الشيخ خالد عن أفكاره السابقة وذلك بتأليف كتاب جديد عنوانه «الدولة في الإسلام».
كما يؤمنون بأن الخلافة العامة هي الوسيلة التي تضمن وجود الإسلام على المستوى الدولي، علاوة عن كونها إطاراً عاماً يمثل المسلمين جميعاً ويحمي أقلياتهم، خاصة مَن يقع عليهم الظلم أو التهجير من أرضهم أو القتل والإبادة، فلا غرو، إذن، أن نجد الشيخ الغزالي يصرّح بأن استعادة الخلافة العظمى أمر يندرج ضمن الفروض العينية(11).
ومن الأفكار التي يقترحها الشيخ الغزالي لوحدة المسلمين السياسية، بوصفها تمهيداً لاستعادة الخلافة الإسلامية فكرة تحويل الأقطار الإسلامية القائمة حالياً في صورة أنظمة قومية ودول قُطرية، إلى شكل «ولايات إسلامية متحدة»، كما هي حال الكيان السياسي القائم في الولايات المتحدة الأمريكية، على أن يكون الرئيس المنتخب من جماعة المسلمين في قارتي آسيا وأفريقيا هو مَن يمثل خليفة المسلمين، كما أنه يكون رمزاً للوحدة الإسلامية.
مع ملاحظة أن الشيخ الغزالي لا يقدم هذا التصور للمستقبل الإسلامي السياسي على المستوى الزمني المتوسط أو البعيد، بل إنه يقدمه لهذه المرحلة، التي يغلب فيها على معظم الدول والفضاءات الإقليمية والسياسية التوجّه نحو التكامل الاقتصادي والتكتّل السياسي، وهو يذهب إلى أنّ صيغة الوحدة السياسية التي يقترحها، إذا تعذّر قيامها في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، نتيجة أوضاعها الراهنة الموغلة في التعقيد، فإن الحد الأدنى من الوحدة، التي ينبغي التشبث بها، أن يجمع بين الأقطار الإسلامية والأقليات الإسلامية المتواجدة في القارات الخمس، نظامٌ يضاهي من الناحية التنظيمية «الاتحاد الكونفدرالي» يسمح ببقاء المعالم المحلية، وفي الوقت ذاته يجعل المسلمين في العالم كله كتلة بشرية واحدة، يجمعهم هدف واحد وتطلعات متناغمة في الميدان الدولي(12).
ومما تقدّم عرضه يمكن أن نصل إلى أنّ الخطاب الإسلامي المعاصر في مجمله -باستثناء حالات قليلة لا يُعتدُّ بها- يؤمن بأنّ وحدة الأمة المسلمة الثابتة بأدلة قطعية في الكتاب والسُّنة والإجماع لا تتجسد حقيقتها سوى بالوحدة السياسية التي تعني الخلافة أو الجامعة السياسية للمسلمين، فهي فضلاً عن كونها من تعاليم الإسلام المؤكدة، تضمن الوجود الدولي للأمة الإسلامية أو العالم الإسلامي، وترعى أهمّ رسالة للأمة وهي الدعوة وتبليغ دين الله الخاتم إلى البشرية كافة.
ومن جهة أخرى، يدرك الخطاب الإسلامي المعاصر بأنّ القوى المعادية للإسلام والمسلمين التي أسقطت آخر تجربة للخلافة الإسلامية، المتمثلة في الخلافة العثمانية، واستعمرت العالم الإسلامي بالقوة العسكرية، ونهبت خيراته وثرواته، لا تسمح بإعادة تكتل العالم الإسلامي في صورة جامعة سياسية واحدة، وأنّ تحقيق ذلك عملياً لا يكون إلاّ بإرادة داخلية من أبناء الأمة الإسلامية أنفسهم.
_______________________
(1) أحمد رضا، معجم متن اللغة، دار مكتبة الحياة، بيروت، المجلد الثاني، ص 323 مادة «خلف».
(2) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، دار القلم، الكويت، ط1، 1978م، ص 19.
(3) عبدالمجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، ط1، 1993م، ص 66.
(4) المرجع نفسه، ص 81.
(5) المرجع نفسه، ص 82.
(6) محمد الطاهر بن عاشور، نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم، دار المطبعة السلفية، القاهرة، ط1، 1344هـ، ص 11.
(7) المرجع السابق نفسه، ص 12.
(8) صلاح الصاوي، الوجيز في فقه الخلافة، دار الإعلام الدولي، القاهرة، ط2، 1992م، ص 8.
(9) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، مرجع سابق، ص 34 – 35.
(10) محمد الغزالي، من هنا نعلم، دار الكتب، الجزائر، 1988م، ص 47.
(11) محمد الغزالي، قذائف الحق، دار المكتبة العصرية، بيروت، ط2، د. ت، ص 146.
(12) محمد الغزالي، أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية، دار الشرق الأوسط للنشر، ط1، القاهر، 1990م، ص 75 – 76.