(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185).
الاستعداد لرمضان نبدأه من شعبان
أيام معدودة وتهل على العالم والأمة الإسلامية خير أيام الدنيا، شهر مبارك ينتظره المسلمون من العام للعام؛ لما حباه الله به من مغفرة ورحمات وبركات وأجور مضاعفة تكريماً لنزول كلام الله في أعظم ليلة به وهي ليلة القدر.
والاستعداد لرمضان وإظهار الفرحة بقدومه يجب أن يكون سمت المسلم الصادق تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي صلى الله عليه وسلم في استعداده لرمضان فقالت: «وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِن شَهْرٍ قَطُّ، أَكْثَرَ مِن صِيَامِهِ مِن شَعْبَانَ كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا»(1).
وأما حال صحابة النبي صلى الله عليه فيقول معلى بن الفضل: كانوا (الصحابة) يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، اللهم سلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً(2).
والاستعداد لرمضان يبدأ قبله بفترة كافية لإيقاظ القلب ليعتاد الصعود وليس الإحباط والهبوط السريع والملل والتراجع والفتور، وإعداد القلب لشحن العزيمة ورفع الهمة وتصحيح المفاهيم والوجهة والبوصلة والهوية، وقيام القلب قبل قيام الجوارح، وطهارة النفس قبل طهارة البدن، وتوجه القلب لخالقه بتوحيد خالص قبل توجه الجبهة للقبلة في مكة.
والاستعداد لرمضان ليس بتكديس البيوت بالطعام وأشهى المأكولات، وإنما بشحذ العزيمة من شعبان قبل أن يأتي نور رمضان، فلا ترى وقد كنت في غفلة امتدت طويلاً ولم تنتبه إلا بعد فوات الأوان.
والاستعداد لرمضان ليس استعداداً للحرمان من الطعام والشراب، وإنما استعداد لليال نورانية سوف تصلح ما أفسده بقية العام، والاستعداد على قدر الهمة، فلتكن همة المسلم بقدر عظمة شهر الانتصارات والفتوحات الإسلامية العظيمة، والعطاء والفتح الرباني على قدر ما تتأهب وتريد وتصنع
لا تكن عزيمتك أقل من عزيمة المفسدين
إن الجميع يتأهب لشهر رمضان، من يسمون بالفنانين والمنتجين والإعلاميين يتأهبون لرمضان ليقدموا أسوأ ما في جعبتهم لجذب الناس لبضاعتهم الفاسدة، ألا تكون وأنت صاحب الرسالة وصاحب الدين وصاحب المعاصي والقصور والحاجة؛ ألا تسبق كل هؤلاء لتستعد لما تريد؟!
إن أي عمل دنيوي يلزمه الإعداد الجيد وبذل الجهد البشري كاملاً، فما بالنا بشهر يمكن أن يغير دفة الحياة بفهم طبيعته وما يمكن أن يمدنا به، فلن يصل لصيامه دون نسيان إلا من استعد وعاش الحدث بكامل كيانه، وليس المطلوب أن يكون البشر ملائكة على الأرض تسير، وإنما إحياء القلب حتى إذا أخطأ صاحبه أو قصَّر أو سقط سرعان ما ينتبه ويعود لرب العالمين، يخطئ ويتوب، يعصي ويتوب، يبتعد ويقترب ويتوب.
إن رمضان هذا العام يعيدنا لعصر الأمجاد والبطولات والرباط والجهاد في سبيل الله، والتضحيات التي لا يستوعبها عقل قام بها أهلنا وإخواننا في غزة العزة والكرامة، ليعيدونا لـ«بدر الكبرى» لتتحقق على أبوابه معجزات الله نراها بأم أعيننا في الفئة القليلة التي تغلب العالم كله مجتمعاً عليها داخل حصار قاتل، ليتحقق قول الله تعالى في رمضان: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (آل عمران: 123).
فليكن استعدادنا له، وعبادتنا فيه على قدر أحداث عظام لها ما بعدها في تحديد مستقبل الأمة في السنوات القليلة المقبلة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين»(3)، فهلم لرحاب الجنة وغياب الشياطين، نعم إنه رمضان مختلف يحمل بشريات نهضة الأمة من غفوتها ولو بفئة قليلة تغلب بإذن الله فئة كثيرة، فما أحوجنا للياليه للدعاء والقنوت والتذلل بين يدي الله ليرفع الكرب عنها فيستيقظ رجالها، نهيئ النفوس العنيدة لتلين، والقلوب الصلدة فتميل، والمسلمين الذين أصابهم الوهن فيستقيم عودهم.
شعارنا «رمضان مختلف»
أليس من الوارد أن يكون رمضان هذا العام الأخير لنا؟ كم ممن نعرفهم كانوا بيننا منذ عام، ودعوا أن يأتي عليهم رمضان آخر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عُثْمَانَ أَصْبَحَ فَحَدَّثَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، أَفْطِرْ عِنْدَنَا»، فَأَصْبَحَ عُثْمَانُ صَائِمًا، فَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(4)، كانت الليلة الأخيرة، فاختار له النبي صلى الله عليه وسلم عملاً يلقاه به في الجنة، فأصبح ذو النورين صائماً، فاختر لنفسك كيف تلق حبيبك في رمضانك إن كان هو رمضان الأخير، فقبل أن تنادى: «رب ارجعون» ولا يستجاب لك.
فإلى أصحاب النفوس اللوامة التي خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ثم هي ترجو رحمة ربها وإجابة النداء ورفع اللواء، ها هي لياليه ترنو في الأفق، وصوت الهادي يناديكم: «يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر»(5).
فكيف نستعد في ثلاث خطوات فقط لاستقبال رمضان؟
أولاً: لنتخلَّ:
إن الإناء يجب تنظيفه مما به من فساد أولاً، قبل أن تستخدمه في إعداد طعام جديد، وإلا فالقديم سوف يُفسد الجديد، علينا أن نتخلى عن صفات اختلطت بنا ربما رغماً عنا، بالنسيان وطول الأمد عن التوبة لتتخلَّ عن: المغالاة والفجر في الخصومة، الغضب، الحسد، الغيبة والنميمة، الكبر، الفحش والسب وبذاءة اللسان، إفشاء السر والوعد الكاذب، الشح، ثم الكلام فيما لا يعنيك.
ثانياً: لنتحلَّ:
ثم تأتي المرحلة الثانية بعد التخلص من أهم الأدران التي أصابت نفوسنا وما ألمَّ بقلوبنا من أمراض بالتوبة المستمرة، بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان إلى الجار، الصدق، الشكر، المراقبة، الخوف والرجاء، التواضع.
ثالثاً: لنتجلَّ:
والإنسان حين يستمر على الطريق يجد نفسه في تصاعد مستمر، ولن يكفيه التوقف عند مرحلة وإن وهن القلب في بعض المراحل، لتتجلى في النهاية وتسمو علاقتك مع الله تبارك وتعالى ثم مع نفسك ثم مع الآخرين، وتسمو نفسك بذكر الموت وقصر الأمل، ومحبة الله، والمراقبة والمحاسبة، والذكر، التفكر في خلق الله، والإكثار من الصدقات، وتوج كل ذلك بالتقوى والإخلاص.
ومع هذه النقاط الثلاث سوف يكون لنا لقاء يومي مع التخلية والتحلية والتجلية لنصل للشهر الكريم ونحن جاهزون تماماً لتلقي أنواره العظيمة وعطاياه الكريمة كل خلق في مقال مستقل نتابعه بإذن الله، وليكن ديدننا التوبة المستمرة؛ (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته»(6).
_____________________
(1) رواه مسلم.
(2) موقع إسلام ويب بعنوان «كيف نستقبل رمضان بتاريخ»، 16/ 6/ 2015م.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الحاكم في «المستدرك» (4554)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (6/ 181)، والآجري في «الشريعة» (4/ 1958).
(5) صحيحٌ: قال الحاكم رحمه الله في «المستدرك» (1/ 582): حديث صحيح على شرط الشيخين.
(6) متفق عليه.