في سورة «الكهف»، يحدثنا القرآن الكريم عن أولئك الذين حملوا عقيدتهم بين جنباتهم وفروا بها من موطن الكفر والجحود والطغيان، وآثروا مفارقة الديار والاغتراب عن العودة إلى براثن الشرك والوثنية.
خلّد الله ذكرهم في كتابه، ووصفهم بقوله تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 13)، لقد كانوا إذن مجموعة من الشباب، وهؤلاء هم الذين تقوم على أكتافهم الحضارات والأمم، وهؤلاء هم الذين كانوا عماد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي وصلت إلى العالمين.
شباب الأمس
جُلّ الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مهد الدعوة كانوا شباباً، هم الذين كانوا دعامة دعوته.
علي بن أبي طالب نام في فراش النبي أثناء رحلة الهجرة عندما حاصر بيته المشركون، وأدى هذا العمل البطولي وهو لم يتجاوز ثلاثة وعشرين عامًا.
الأرقم بن الأرقم كان شاباً لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، حين جعل من بيته مقرًا لاجتماعات النبي صلى الله عليه وسلم السرية بأصحابه.
مصعب بن عمير من أوائل الذين آمنوا، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليعلّم أهل المدينة دينهم، فوطّأها لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو شاب في مطلع الثلاثينيات من عمره.
أسامة بن زيد، حِبّ رسول الله وابن حِبِّه، يُؤمّره النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السابعة عشرة من عمره على جيش فيه عمر بن الخطاب وغيره من كبار الصحابة.
شباب اليوم
فأين شباب الأمة اليوم؟ تراهم -إلا من رحم ربي- منغمسين حتى النخاع في حياة الدعة والترف والخمول والاهتمام بسفساف الأمور، يقضون نهارهم في النوم، وليلهم على الهاتف يتنقلون بين الأفلام والمسلسلات، ومواقع الترفيه، يقتلون أوقاتهم بكل وسيلة فيما لا طائل من ورائه، تنصب اهتماماتهم على قصات الشعر الحديثة وموضات الملابس والإيقاع بالفتيات.
سلهم عن فناني هوليود وبوليود والدراما التركية، والمطربين في الشرق والغرب، وعن أخبار الزواج والطلاق في الوسط الفني، سوف يجيبونك بسخاء.
ولكن سلهم عن الطفيل بن عمرو الدوسي، والقعقاع بن عمرو، وأبي دجانة، وابن كثير، والذهبي، وعبدالرحمن الداخل، وغيرهم من العظماء، سوف يفغرون أفواههم جهلًا.
أحوال شبابنا لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح، ولكن ما الذي أوصلهم إلى هذه الدرجة من الميوعة والتردي؟!
ضعف التمسّك بالدين
لقد أمر الله تعالى نبيه يحيى عليه السلام أن يأخذ المنهج بقوة (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم: 12)، قال ابن كثير: «أي: بجد وحرص واجتهاد»(1)، فالدين لا بد من أخذه بقوة وجدية وإلا انفلت من بين يديه، وهذا ما حدث في الأمة، نأت عن تعاليم الدين، واستوعبت الأفكار والفلسفات الدخيلة، وصار جل اهتمامها بالكلام والجدل، وتشوهت كثير من تصوراتها المأخوذة عن عهد النبوة، وابتدعت في دين الله ما ليس منه، وغرقت في الجهل بالدين، وانصرفت إلى متاع الدنيا، فأصابها الخور والضعف، وصيغت شخصية الشباب خلافاً للمنهج الرباني، وتُركوا تتقاذفهم الأهواء، لأنهم تعرضوا لمناهج تربوية غير صالحة لإعداد الرجال.
فصل الشباب عن تاريخهم
وهو نتاج طبيعي للجهل بصفة عامة، ثم يأتي دور المناهج التعليمية التي لا تولي اهتماماً كافياً بتدريس التاريخ الإسلامي، فالمناهج التعليمية توجه اعتناءها للتاريخ المعاصر، أو تاريخ الحضارات القديمة، ففي مصر على سبيل المثال يتم تسليط الضوء على تاريخ الحضارة الفرعونية، ومثله في العراق بما يتعلق بالحضارة السومرية والآشورية والبابلية، وهكذا في سائر البلاد، أو ينصب الاهتمام بتدريس التاريخ المعاصر الذي شهد أحلك فترات الأمة بافتراقها وضعفها.
وحتى فيما يتعلق بدراسة التاريخ الإسلامي، فإنه يتم تدريسه غالباً بشكل سردي، دون التعرض لتفسيره وربطه بالمسار الحضاري أو الوقوف على أبعاده القيمية أو التركيز على عوامل البناء والهدم للدول، أو ربط هذا التاريخ بعلم الاجتماع.
الغزو الفكري والثقافي
لطالما كان الشباب مستهدفين؛ لأن عدوهم يعلم أنه لا قوام لأمتنا إلا بشبابها، فعملوا على سلب عقولهم وإغراقهم في التفاهات، والإغارة على معتقداتهم وقيمهم وأخلاقهم، وصدّروا إليهم الأفكار الهدامة والقيم الرديئة، وخلقوا لهم مجالاً لا حدود لها للهو والترفيه، وأغرقوهم في المواد الإباحية وأصناف المخدرات، في ظل غياب لدور الدول والمؤسسات والأسر عن بناء شخصية الشباب وتحصينهم ضد هذا الغزو الثقافي الذي حلّ بديلاً عن الغزو العسكري.
غياب القدوة
فلئن كان تاريخ أمتنا مكتظة صفحاته بالقدوات البارزين، إلا أن النفس جُبلت على التعلق بما تشاهده العين وتسمعه الأذن، فالشباب في هذا العصر لا يجدون قدوات حقيقية في حياتهم، وذلك يرجع لعدم تلميع وإبراز النابغين الذين يصلحون أن يكونوا قدوات للشباب، فمع الأسف الشديد، لا يُلمع في أمتنا أكثر من المنتمين إلى مجالات الفن والكرة، أما علماء الشريعة وعلماء الطب والفيزياء والكيمياء الحيوية وغيرها من مجالات العلم، فتجدهم مغمورين لا يكادون يُذكرون في بلادهم، ولا تهتم بهم وسائل الإعلام ولا تسلط الأضواء عليهم، ومن ثم يفتقد الشباب وجود القدوة العملية، التي هي من أهم أسباب التوجيه، كما قيل: «عمل رجل في ألف رجل، أبلغ من قول ألف رجل في رجل»(2).
أكذوبة المراهقة
اخترع الغرب مصطلح المراهقة، الذي يستوعب انحرافات الشباب ويضعها في إطار مسموح به أو مُتغافل عنه، وغدا مبررًا لطيش الشباب، تعاطينا نحن مع هذا المصطلح، فصرنا ننظر إلى الشاب على أنه معذور فيما يفعله، لأنه يمر بمرحلة انتقالية بين الطفولة والرجولة تصحبها تغيرات اجتماعية ونفسيه وفسيولوجية.. وعلى ذلك نحن مجبورون على أن ننتظر استقامة الشاب وتعقله وترويه طيلة هذه السنوات.
«المراهقة» مصطلح غربي في علم النفس، وأما في الإسلام فليس له وجود إلا من ناحية اللغة، فبمجرد أن يبلغ الصبي الحلم حتى يصير شاباً مُكلفاً مسؤولاً عن تصرفاته.
قد كان الشباب قديماً في هذه السن يقودون الجيوش، ويتصدرون مجالس العلم وتوجيه الناس، ويخترعون ويبتكرون، ويتزوجون وينجبون ويعملون، يحاسبهم المجتمع على أفعالهم.
حتى يعود الشباب
حتى يعود الشباب فلا بديل عن ربطهم بماضيهم وتاريخهم وتراثهم، وهذا بدوره يحتاج إلى بذل وجهد، يتضافر فيه الجميع، مؤسسة الأسرة، والمساجد، والمؤسسات التعليمية، والمجامع الثقافية.
حتمًا إذا وجدت إرادة رسمية للدول لسارت الأمور على الوجه المأمول، ويكفي فقط أن تتبنى الحكومات مشروعًا ضخمًا للدراما الهادفة بعيداً عن الإسفاف والابتذال، فهو كفيل بإحداث طفرة في حياة الشباب.
لكن لنكن واقعيين، ونتوجه بالخطاب إلى المعنيين بالناشئة خارج الإطار الرسمي:
أولاً: اهتمام الوالدين بتنشئة الأبناء من البداية على ربطهم بتاريخهم وتراثهم، وهذا بدوره يحتاج منهما أولاً إلى شيء من الثقافة الإسلامية، وإبراز الشخصيات البارزة عبر التاريخ لتكون قدوة لهم.
ثانيًا: دور الدعاة وأئمة المساجد في استمالة الشباب، بتحديث خطابهم الديني، وأعني به صياغة أسلوب الدعوة وأدواتها وفقاً لإيقاع العصر.
فهاتان المؤسستان هما ما يمكن التوجه إليهما بما يتعلق برعاية الشباب حتى نكون واقعيين، إضافة إلى شريحة الكُتّاب والمثقفين أصحاب التوجهات الإسلامية والهادفة.
______________________
(1) تفسير ابن كثير (5/ 216).
(2) فيض القديري، المناوي (1/ 78).