أورد ابن خلكان في كتاب «وفيات الأعيان»، وابن العماد الحنبلي في كتاب «شذرات الذهب»، أن رجلاً يسمى المبارك بن واضح كان يعمل أجيراً في بستان، فجاء صاحب البستان يوماً، وقال له: أريد رماناً حلواً، فمضى المبارك إلى بعض الشجر، وأحضر منها رماناً، فكسره صاحب البستان فوجده حامضاً، فغضب عليه، وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟ هات حلواً، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضاً حامضاً، فاشتد غضبه عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فتذوقه، فوجده أيضاً حامضاً.
فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا، فقال: وكيف ذلك؟ فقال: لأني ما أكلتُ منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولِمَ لَمْ تأكل؟ قال: لأنك ما أذنتَ لي بالأكل منه، فعجب من ذلك صاحبُ البستان، وسأل عن ذلك فوجده حقاً! فعظُم المبارك في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيراً، فقال له: يا مبارك، مَن ترى تزوَّج هذه البنت؟ فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدِّين، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك، فتزوجها، فأنجبت عبدالله بن المبارك(1).
للمراقبة دور مهم في بناء الضمير الحي الذي لا تغريه الشهوات ولا تستهويه الشبهات
فما كان من هذا الوالد الكريم إلا أن ربّى ولده عبدالله على هذه المراقبة، التي تعني: دوام علم العبد بأن الله يعلم ظاهره وباطنه، ولا يخفى عليه شيء من أمره، وقد أثمرت فيه هذه المراقبةُ الفضائلَ المتنوعة، من علم وفقه وأدب وزهد وشجاعة وقوة وعبادة وإخلاص لله تعالى، حتى أتاه رجل يوماً يطلب منه النصيحة، فقال له عبدالله بن المبارك: راقب الله، فقال الرجل: وما تفسيرها؟ قال عبدالله: كن أبداً كأنك ترى الله(2).
وعاش عبدالله بن المبارك حتى أصبح عالماً كبيراً، يشهد له القاصي والداني، حتى قال عنه عبدالرحمن بن مهدي: ما رأت عيناي أنصح للأمة من ابن المبارك(3).
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خَصلة من خصال الخير، إلا وقد جعلها في عبدالله بن المبارك(4).
وكان من أبرز خصاله: الحرص على نشر العلم، وتيسير أمور العلماء والدعاة، وقضاء حوائجهم دون أن يعلم به أحد، وهذه ثمرة المراقبة لله تعالى.
ويدل على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي من أن عبدالله بن المبارك كان كثير الاختلاف إلى «طرسوس»، وكان ينزل الرَّقَّة في خانٍ، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبدالله مرة، فلم يرَه، فخرج في النفير (الجهاد في سبيل الله) مستعجلاً، فلما رجع، سأل عن الشاب، فقيل له: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم (صاحب الدَّين)، ووزن له عشرة آلاف، وحلفه ألا يخبر أحداً ما عاش، فأخرج الرجل، وسرى ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرَّقَّة، فقال لي: يا فتى، أين كنت؟ لم أرَك! قال: يا أبا عبدالرحمن، كنت محبوساً بدَيْن، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى دَيني، ولم أدرِ، قال: فاحمَدِ الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبدالله بن المبارك(5)، إنها ثمرة التربية على مراقبة الله تعالى، التي اهتمت بها الحضارة الإسلامية العظيمة.
للتربية الأسرية دور مهم في غرس قيمة مراقبة الله تعالى في نفوس الأبناء وسلوكهم
فلماذا حرصت الحضارة الإسلامية على تكوين الدعاة وتربيتهم على قيمة المراقبة لله تعالى؟
أولاً: تؤدي المراقبة دوراً مهماً في بناء الضمير الحي، الذي لا تغريه الشهوات ولا تستهويه الشبهات، ومن ثم فإنه يثبت أمام التحديات، مستحضراً معية الله تعالى ومعاونته، ولهذا الأمر ثمرة كبيرة في حفظ الدين الإسلامي، واتخاذه قاعدة لإقامة الحضارة، التي ترضي الله سبحانه وتعالى، وتحقق السعادة للإنسان.
ثانياً: تسهم المراقبة لله تعالى في إحسان العمل وإتقانه؛ حيث إن العبد الذي يراقب ربه؛ يجتهد في أداء واجبه على أفضل مستوى ممكن من الأداء، بل إنه يحرص على تجويد عمله وإحسانه؛ ولهذا كان الإحسان ثمرة من ثمرات المراقبة، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الإحسان، فقال: «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ»(6).
وليست المراقبة في أداء الصلوات أو الشعائر فقط؛ بل في كل الأعمال، فإذا راقب الداعية ربه، وراقب العابد ربه، وراقب العامل ربه، وكذلك بقية الناس؛ فإن هذا يؤدي إلى تحسين الأعمال في كل جوانب الحياة، فإذا تحقق ذلك فإنه يثمر قوة وجودة في البناء الحضاري الإسلامي.
فإذا كانت التربية على قيمة المراقبة لله تعالى لها فاعليتها المهمة في البناء الحضاري؛ فما الوسائل التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على المراقبة؟
أولاً: التربية الوالدية والرعاية الأسرية؛ وهي التي يقوم فيها الوالد بغرس قيمة المراقبة في نفوس أبنائه، وقد تجلى ذلك في قصة لقمان وهو يربي ولده على المراقبة، ليكون مثالاً لتربية الدعاة، فيقول: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) (لقمان: 16).
ويظهر دور الوالد في تربية الدعاة على مراقبة الله من خلال موقف المبارك والد عبدالله الذي ذكرناه في بداية المقال.
ومن الأمثلة على دور الرعاية الأسرية في تربية الدعاة على مراقبة الله ما رواه الإمام البيهقي قال: أخبرنا أبو عبدالرحمن قال: سئل جدي إسماعيل بن نجيد: ما الذي لا بد للعبد منه؟ قال: ملازمة العبودية ودوام المراقبة(7).
المربي يلفت نظر الداعية إلى مراقبة الله والتأكيد على عدم الاغترار بمراقبة الناس وثنائهم
وروى الإمام الزبيدي، عن سَهْلِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ التَّسْتُرِيِّ، قَالَ: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل، فأنظر إلى صلاة خالي، محمد بن سوار، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك! فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات: الله معي، الله ناظر إليَّ، الله شاهدي، فلم أزل على ذلك سنين حتى وجدت حلاوة في سرّي، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه، وهو ناظره، وشاهده، كيف يعصيه؟!(8).
ثانياً: نصائح المربي وتوجيهاته؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثال في تربية الدعاة، من خلال نصحه لسيدنا عبدالله بن عباس، الذي قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ..»(9)، ففي الحديث توجيه من الرسول المربي صلى الله عليه وسلم لحبر الأمة وترجمان القرآن سيدنا عبدالله بن عباس وكذلك للأمة من بعده أن يراقبوا ربهم في أعمالهم وأحوالهم.
ومن أمثلة حرص المربين في الحضارة الإسلامية على تربية الدعاة ما فعله أبو نعيم الحافظ الذي كان ملازماً لأبي عبدالله بن مالك، فقال له: إذا كنت فاعلاً فانظر نَظَر الله إليك، وإذا كنت قائلاً فانظر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتاً فانظر علم الله فيك، قال الله تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46)، وقال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (البقرة: 235)(10).
كما يلفت المربي نظر الداعية إلى المراقبة لله تعالى من خلال التأكيد على عدم الاغترار بمراقبة الناس وثنائهم، ومن ذلك ما قاله أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للنّاس فكن واعظاً لنفسك وقلبك، ولا يغرّنّك اجتماعهم عليك فإنّهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك(11)، فالداعية يراقب ربه سبحانه وتعالى وينشغل به دون المخلوقين، وخاصة في أوقات الخلوات.
التربية الذاتية هي التي يتعهد فيها الداعية نفسه ويربيها على مراقبة الله حتى يكتسبها
ثالثاً: التربية الذاتية؛ وهي التي يتعهد فيها الداعية نفسه بالمتابعة والمحاسبة ويربيها على المراقبة لله تعالى حتى يكتسبها، وفي هذا يقول الفقيه المحقق الشيخ شعيب بن الحسين الأندلسي: بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة(12).
فإذا اكتسبها فإنها تظهر في سلوكه، وقد يتحدث عنه الناس كمثال للتحلي بها، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما قاله أبو عبدالله بن عبدالملك المراكشي عن أحد المحَدِّثين، وهو عليّ بن خلف الغرناطي أنه كان يغلِبُ عليه المراقبة لله والتأهُّبُ للقائه وحُسن الرعاية والإقبال على الله(13).
وقال ابن الجوزي: كان الشيخ أبو بكر بن هوار عظيمَ القَدْر، كبيرَ الشَّأْن، دائم المجاهدة، لازم المراقبة إلى الرَّبِّ(14).
والناظر في ترجمة الإمام الذهبي لكثير من الأعلام يجد أنه وصفهم بدوام المراقبة لله تعالى حتى اشتهر عنهم ذلك، ومنهم سفيان الثوري، وابن أبي أويس الأصبحي، وخالد البرمكي، ومحمد بن المبارك الصوري، وغيرهم من العلماء والدعاة.
فما أجمل أن نعرف سيرهم، ونقتفي أثرهم، حتى نكون مثلهم.
_____________________________
(1) وفيات الأعيان، لابن خلكان (3/ 32). وشذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي (2/ 362).
(2) إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 480).
(3) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (11/ 388).
(4) سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 384).
(5) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (11/ 388).
(6) متفق عليه، رواه البخاري (50)، ومسلم (9).
(7) الزهد الكبير: للبيهقي (1/ 287).
(8) إحياء علوم الدين (3/ 92).
(9) رواه أحمد بسند صحيح (2669).
(10) تاريخ دمشق، لابن عساكر (55/ 219).
(11) إحياء علوم الدين.
(12) عنوان الدراية، أبو العباس الغِبْرِيني، ص 31.
(13) الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (3/ 174).
(14) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 115).