في أول ليلة من ليالي شهر المحرم 24هــ، استقبل الصحابي الجليل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه خبر إجماع الصحابة على توليته خليفة للمسلمين بعد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وما أن استقرت البيعة له حتى خرج في الناس خطيباً، وقد أورد الطبري في تاريخه نص الخطبة، فقال: عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ حُمِّلْتُ وَقَدْ قَبِلْتُ، أَلا وَإِنِّي مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ، أَلا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا: اتِّبَاعُ مَنْ كَانَ قَبْلِي فِيمَا اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ وَسَنَنْتُمْ، وَسَنُّ سُنَّةَ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيمَا لَمْ تَسِنُّوا عَنْ مَلأ، وَالْكَفُّ عَنْكُمْ إِلا فِيمَا اسْتَوْجَبْتُمْ، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ قَدْ شُهِّيَتْ إِلَى النَّاسِ، وَمَالَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَلا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَثِقُوا بِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِثَقَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا غَيْرُ تَارِكَةٍ إِلا مَنْ تَرَكَهَا(1).
إن الناظر في هذه الخطبة يتبين له أنها ترسم السياسة الشرعية لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه مع الرعية، وتتبين معالمها في النقاط الآتية:
أولاً: عدم السعي إلى الولاية أو الحرص عليها وعدم التخلي عنها إذا وجب الأمر:
لم يكن سيدنا عثمان بن عفان طامعاً فيها، وإنما استجاب لضغط أصحابه، حرصاً على جمع الكلمة وتوحيد الأمة، ويظهر عدم حرصه على الولاية في قوله: «فَإِنِّي قَدْ حُمِّلْتُ وَقَدْ قَبِلْتُ».
ثانياً: التأكيد على الاتباع والبراءة من الابتداع:
حرص سيدنا عثمان بن عفان على أن يبين للناس أنه متبع لما جاء من عند الله، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يبتدع في دين الله ما ليس منه، وقد أعلن هذا في قوله: «أَلا وَإِنِّي مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ».
ثالثاً: الاعتصام بالقرآن والسُّنة والتحاكم إليهما:
فيهما العصمة والنجاة، وفيهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تاركٌ فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به؛ كتابَ اللهِ وسنتِي»، وقد أكد سيدنا عثمان اعتصامه بهما، داعياً الأمة جمعاء إلى ذلك بقوله: «أَلا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً»، فإنه أحب أن يؤكد أموراً ثلاثة، لكن بعد أن يرسخ القاعدة الأساسية، وهي الاعتصام بالكتاب والسُّنة.
رابعاً: الالتزام بسيرة الخلفاء الراشدين من قبله:
فلم ينتقص سيدنا عثمان من قدرهما، ولم يخرج عن نظامهما، بل أعلن في أول تنبيه له عن نيته وعزمه على «اتِّبَاعُ مَنْ كَانَ قَبْلِه».
خامساً: التأكيد على التعامل بالرحمة والحكمة إلا مع المعتدين:
أعلن سيدنا عثمان أن سياسته تقوم على الرحمة والحلم، والكف عن الناس، إلا إذا تعدى المعتدي، وتجاوز الفرد حدوده، واستوجب العقوبة، وفي هذا قال رضي الله عنه: «وَالْكَفُّ عَنْكُمْ إِلا فِيمَا اسْتَوْجَبْتُمْ».
سادساً: التحذير من الركون إلى الدنيا:
إنها أصل الشر والفتنة، وإن التنافس فيها يؤدي إلى ضياع الأمة، ولهذا استهل الخليفة عثمان حكمه بالتحذير منها، فقال: «أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ قَدْ شُهِّيَتْ إِلَى النَّاسِ، وَمَالَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَلا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَثِقُوا بِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِثقةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا غَيْرُ تَارِكَةٍ إِلا مَنْ تَرَكَهَا».
سابعاً: وضع الخطة التي يسير عليها ولاته على الأمصار:
أبقى سيدنا عثمان على الولاة الذين عيّنهم الفاروق، وكتب إليهم كتاباً، قال فيه: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الأَئِمَّةَ أَنْ يَكُونُوا رُعَاةً، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا جُبَاةً، وَإِنَّ صَدْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ خُلِقُوا رُعَاةً، لَمْ يُخْلَقُوا جُبَاةً، وَلَيُوشِكَنَّ أَئِمَّتُكُمْ أَنْ يَصِيرُوا جُبَاةً وَلا يَكُونُوا رُعَاةً، فَإِذَا عَادُوا كَذَلِكَ انْقَطَعَ الْحَيَاءُ وَالأَمَانَةُ وَالْوَفَاءُ أَلا وَإِنَّ أَعْدَلَ السِّيرَةِ أَنْ تَنْظُرُوا فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا عَلَيْهِمْ فَتُعْطُوهُمْ مَا لَهُمْ، وَتَأْخُذُوهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تُثْنُوا بِالذِّمَّةِ، فَتُعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ، وَتَأْخُذُوهُمْ بِالَّذِي عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْعَدُوَّ الَّذِي تَنْتَابُونَ، فَاسْتَفْتِحُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ»(2).
وفي هذا الكتاب تأكيد على الولاة أن يعرفوا مهمتهم، وهي ليست جمع المال من الرعية، وإنما تتمثل في رعاية مصالح الناس، ولأجل ذلك بيَّن السياسة التي يسوسون بها الأمة، وهي أخذ الناس بما عليهم من الواجبات وإعطاؤهم حقوقهم، فإذا كانوا كذلك صلحت الأمة، وإذا انقلبوا جباة ليس همهم إلا جمع المال انقطع الحياء وفقدت الأمانة والوفاء(3).
لقد كان في كتاب سيدنا عثمان للولاة تركيز على قيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم وأخذ ما عليهم، وإعلاء شأن مبدأ الرعاية السياسية لا الجباية وتكثير الأموال(4).
ثامناً: حث الجنود على الالتزام بما وضعوا فيه:
كتب سيدنا عثمان إليهم كتاباً يقول فيه: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؛ فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه»(5).
تاسعاً: إعلان السياسة المالية للدولة الإسلامية:
كتب سيدنا عثمان كتاباً إلى عماله، يدعوهم فيه إلى التمسك بالحق والوفاء والأمانة والعدل، حيث قال: «أما بعد، فإن الله خلق بالحق فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم»(6).
عاشراً: التأكيد على واجب الرعية في نصح الراعي وحقها في محاسبته:
حرص سيدنا عثمان على التشاور مع الرعية، والاستماع إلى آرائهم، ودعا الجميع إلى تقديم النصيحة والمشورة له، بل إنه أكد حق الناس في محاسبته، فقال: «إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد»(7).
إن هذه بعض معالم السياسة الشرعية للخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في التعامل مع الرعية، وهي سياسة رشيدة قد أتت ثمارها، كما ذكر ذلك العلماء في التأصيل لها(8)؛ وهي سياسة تقوم على الاعتصام بالكتاب والسُّنة والاتباع لسيرة الخلفاء الراشدين السابقين عليه، والنظر إلى مصلحة الأمة وحمايتها، والعمل على تحقيق حاجتها ورفعة شأنها.
_____________________
(1) تاريخ الأمم والملوك: للطبري، (5/ 244).
(2) تاريخ الأمم والملوك: للطبري، (5/ 245).
(3) تحقيق مواقف الصحابة: د/ محمد أمحزون، (1/ 393).
(4) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين: د. حمدي شاهين، ص: 246.
(5) تاريخ الأمم والملوك: للطبري (5/ 244).
(6) تاريخ الأمم والملوك: للطبري (5/ 244).
(7) مسند الإمام أحمد (524).
(8) ينظر: تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه: د. علي محمد الصلابي، ص 86.