يزخر القرآن الكريم بالقصص القرآني الذي وصفه الله عز وجل بأحسن القصص في قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3)، وكما أن كتاب الله عز وجل ما زال يحمل من الإعجاز الكثير وسوف يظل معجزة في ذاته إلى يوم الدين، طالما بقيت الحياة على الأرض بما يخبرنا بأن آياته لا تنضب ولا تنتهي في شتى جوانب الحياة.
فكذلك ستظل معجزاته وإبداعاته اللغوية والفنية والتصويرية باقية لمن يريد تعلم الإبداع والتجديد والإبهار ككاتب ومبدع يريد تقديم نفسه للقراء بأسلوب متجدد.
ومن الفنون المميزة في كتاب الله الفن القصصي التصويري الذي يضعك في الصورة وكأنك تراها رأي العين، وليس مجرد وصف سطحي يمر مرور العابرين، ساق القرآن لنا كافة أنواع القصص، واضعاً قواعد وحدود الإبداع بما لا يثير غريزة رغم وصفه الدقيق للحالة التي يعرضها، ومنها موقف امرأة العزيز على سبيل المثال، ولحظات الترقب والإثارة في وصف قصة موسى مع السحرة، ووصف لحظات الخوف حين دخل موسى على فرعون يعرض عليه دعوته، وتنتقل المشاهد بإبداع رباني سلس لا يخل بالغرض من عرض القصة ولا ينال من مصداقيتها؛ مما ضع القارئ في بعض منها لتوقف الأنفاس حتى يصل لمشهد النهاية.
ونعرض في السطور التالية ملامح التصوير الفني في القصص القرآني ليقف عليها المبدعون ولمن يريد التعلم:
أولاً: للعرض القصصي حكم ومقاصد(1):
– العقيدة والتشريع وما يتعلق بهما:
من المعلوم أن الدين الإسلامي عقيدة وعمل؛ عقيدة: تتضمن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل: وهو تنفيذ شرع الله الحكيم.
فالعقيدة والعمل يلتزم بهما المؤمن حتى يجني الثمرة المرجوة، والجزاء الأوفى عند الحق عز وجل، ومن ثم نرى كثيراً من آيات القرآن الكريم تدعونا إلى التمسك بالجانبين معاً، جانب العقيدة وجانب العمل، جانب العقيدة وهو المحور الأساسي الذي تنبني عليه الشرائع الإسلامية، وفي ذلك يقول الحق عز وجل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة: 285)، وأما عن الجانب التشريعي فيقول الله عز وجل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18)، وأما عن جانب الوعيد فيقول الله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود: 105)، ويصور القرآن كثيراً من مشاهد يوم القيامة التي تتجلى فيها صورة المؤمن والكافر والمنافق والعاصي بينهما.
– التأسي والاعتبار:
ضرب الله عز وجل الأمثلة القصصية القرآنية حتى يعتبر الإنسان ويختار لنفسه الطريق الأمثل، فهناك قصّ يحدد علاقة الأنبياء والرسل بأممهم؛ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر: 78)، وهناك قصّ سيطر عليه تصوير النوازع الإنسانية إلى غير ذلك من ألوان القص الطريفة المثيرة، ومنها قصة أهل الكهف التي تكشف هؤلاء الفتية الذين فروا بدينهم من الظلم إلى البارئ عز وجل؛ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف: 10)، فالقصص القرآني قد تعددت جوانبه واختلفت مراميه.
ثانياً: ملامح التصوير الفني في القصة القرآنية (أصحاب الكهف نموذج)(2):
لقد تفرد التعبير القرآني في القصة بشكل منقطع النظير، بحيث إنك كقارئ أو حتى متخصص في الفن القصصي يصعب عليك تبديل لفظ بلفظ آخر، أو ترتيب حدث عن غيره، أو تقديم أو تأخير في جملة من الجمل، ولا يمكن إلا أن تسلم بكل حرف في موضعه، وفي ذلك يقول سيد قطب في رائعته «التصوير الفني في القرآن الكريم»(3): إن التعبير القرآني يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التي يعرضها، فتستحيل القصة حادثاً يقع ومشهداً يجري، لا قصة تروى ولا حادثاً قد مضى، ومن خلال قصة أهل الكهف نستعرض التصوير الفني في القصة:
الوصف العام للمشهد لإعطاء خلفية المحيط الاجتماعي بالأبطال، ثم إسدال الستار ليبدأ مشهد جديد في مشهد سينمائي أو مسرحي بعد اتخاذ قرارهم اعتزال مجتمعهم والهروب من الظالمين، ليرفع الستار على مشهد إتمام التنفيذ وكأننا نراهم بالفعل (تقديم نموذج مختصر، ثم الدخول في التفاصيل).
يقول الله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً {14} هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً {15} وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) (الكهف).
الوصف الدقيق بالألوان المتحركة في مشهد لا يمكن تصويره على أي مسرح مهما بلغت إمكاناته الفنية إلا أن تكون شمساً حقيقية تصور الدفء واللون والحركة في آن واحد، مشهد مضاء بالشمس يميناً ويساراً ثم لا تطالهم حتى لا تؤذيهم، فالشمس تتحرك بالكهف لأغراض عديدة؛ «تتزاور» مشهد حركي بامتياز صباحاً ومساء؛ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ) (الكهف: 17).
ثم تشاهد، كما يقول سيد قطب(4)، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ) إن الألفاظ لتقوم بالمعجزة مرة أخرى، فتنقل هيئتهم وحركتهم كأنما تشخص وتتحرك على التوالي: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (الكهف: 18).
وفجأة تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً {19} إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف).
وهذا هو المشهد الثالث -أو بقية المشهد الثاني- فهم قد استيقظوا، فكان أول ما يسألون عنه: كم لبثتم؟ فيكون الجواب لبثنا يوماً أو بعض يوم، وإنّا لنعلم أنهم لبثوا أطول من ذلك جداً، فقد عرفنا ملخص قصتهم قبل تفصيلها، أما هم فجائعون معجلون عن التحقق، ثم إنهم مؤمنون، فليكن مظهر إيمانهم أن يقولوا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)، وهم متخوفون أن ينفضح أمرهم، فهم يوصون رسولهم أن يتلطف ولا يشعرنّ بهم أحداً، لئلا يعرف القوم مقرهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملّتهم، أما نحن فنعرف أن لا أحد هناك يرجمهم أو يردهم عن دينهم. ولكن لنتتبّع هذا الرسول في المشهد الثالث:
أين هو هذا المشهد؟ هنا فجوة متروكة للخيال، فنحن لا نجد إلا أن أمرهم كشف وعثر الناس عليهم، وإن كان الناس يومئذ مؤمنين لا كافرين: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) (الكهف: 21).
وهنا يبرز الغرض الديني من القصة، ولكن النصيب الفني كذلك قد استوفى، فللخيال أن يتصور ماذا حدث عند ما ذهب رسولهم وعندما كشف أمره أيضاً.
وهنا كذلك فجوة أخرى، فهم قد ماتوا فيما يظهر، بل ماتوا فعلاً، والقوم خارج الكهف يتنازعون ويتشاورون في شأنهم، على أي دين كانوا؟ (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) (الكهف: 21).
وهنا فجوة ثالثة، فليتخذ الخيال هذا المسجد عليهم، أما الناس بعد أن انتهى الأمر، فها هم أولاء -كعادة الناس- يتناقلون أخبارهم، ويتجادلون في عددهم، وعدد السنين التي انقضت عليهم: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (الكهف: 22).
لقد طواهم المجهول بعد أن تمت الحكمة الدينية من بعثهم، فليوكل سرهم إلى المجهول أيضاً: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (الكهف: 22).
ثم تتهيّأ المناسبة للتوجيهات الدينية المعهودة، فنحن في أعقاب قصة البعث والقدرة الإلهية والاستئثار بالغيب، فهنا يقول: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً {23} إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف).
إن قوة عرض قصة أصحاب الكهف بين قوة العرض والإحياء لتوقف أنفاس العابد بالتلاوة في كل مرة يتعرض لها ليصل لمصيرهم بعد انتشار فكرتهم وانتصارها.
_______________________
(1) الجانب الفني في قصص القرآن الكريم، عمر محمد عمر باحاذق، وهو عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب.
(3) المرجع السابق، ص 190.
(4) المرجع السابق.