إن القرآن الكريم تكمن قوته الأساسية في أمرين أساسيين؛ الأول: تقديم حلول المشكلات الاجتماعية، والثاني: صياغة الإنسان القادر على التحسين والتطوير والتغيير لواقعه ومجتمعه وعالمه.
لكن الباحث الاجتماعي فقَدَ الاتصال الحقيقي والفعال بالقرآن الكريم كنهج للمجتمع، وكإطار لتقديم صياغات اجتماعية ملائمة لتحسين وإصلاح واقع الأمة، كان بإمكان الباحث الاجتماعي لو حدث هذا الاتصال أن ينتج معرفيًا وأن يبدع فكريًا ويسهم اجتماعيًا في تطوير نظرية اجتماعية منقذة للمجتمع مما يعانيه من كوارث ومنعطفات حضارية بالغة الخطورة، وتزداد آثارها يومًا بعد يوم.
إن إبعاد القرآن عن نشاط الأمة وحركتها أحرق طاقة الأمة وثرواتها البشرية والمادية، وبدد نظام أفكارها الصانع لحركة الحياة والاجتماع، واستبدل حفنة من الرماد الناتج عن هذا الاحتراق بنظام الأفكار، فلم يعد يغني عن الحق شيئًا.
إن القرآن الكريم هو بحق، وليس على سبيل المجاز، (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89)، وذلك بما يقدمه للإنسان من أمرين رئيسين ولازمين في حركته الاجتماعية؛ الأول: فكرة كاشفة ودافعة، توضح له طبيعة المسير، ومتطلباته، ومحاذيره، وترجيحاته، فتمثل له مرجعًا وموجهًا ودافعًا وحافزًا يستند إليه، في اطمئنان إلى طبيعة سيره وكدحه.
والثاني: معيارٌ يحكم به على الظواهر والأحداث، التي تواجهه في هذا المسير، ووظيفة هذا المعيار هو تمكين الإنسان من ميزان مضبوط الكيل بالقسط، تجعله يصدر أحكامه في اتزان وعدل؛ بالقبول أو الرفض، بالحب أو الكره، بالإقدام أو الإحجام، بالاقتداء أو التصويب، بالهدم أو الإصلاح.
إن القرآن، في أصل هداياته، يمد الإنسان بهذين الأمرين: الفكرة الكاشفة الموجهة، والمعيار/الميزان المنضبط الكيل، وجاءت آياته بينات في تكثيف فريد لهذين البيانين.
العمل والبطالة
استبدلت الأمة التبعية للنظام الاقتصادي الرأسمالي بنظام اقتصاد القرآن الذي يقوم على المحافظة على نسب البطالة ونسب قوة العمل اللازمة حتى يضمن استقرار احتكار أسعار السلع له والتحكم في كمية الإنتاج، فلا يزيد الإنتاج إلا بما يقرر هو، ومن ثم نجد البطالة في ازدياد خصوصًا في الدول التي تملك من الثروات ما يهيئها للاكتفاء الذاتي، لكن وقوعها في عملية الانقياد والتبعية الرأسمالية لا تجعلها تخرج عما حدد لها في إطار طبيعة العمل وعدد العمال الذي يدخل كله فيما يعرف بالاستثمار الأجنبي، والخصخصة والتوكيلات التي ترهن اقتصادات الأمة للغرب الرأسمالي.
أما منهج القرآن فيقوم على تقدير العمل، كل العمل يدويًا كان أو فكريًا ولا يرضى البطالة أو العطالة لأفراده، بل يذمها ويعتبرها خروجًا عن عبادة الله في الأرض، ومخالفة لمنهج الاستخلاف والاستعمار الإنساني التي هي أحد أهم مقاصد الحق في الخلق، عمارة الأرض قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61).
يتسع مفهوم العمل في الرؤية القرآنية ليتضمن العمل في أبسط صوره من إعمال العقل إلى اليدين والحواس، هذا النموذج الذي أسس لحضارة الفسيلة؛ فالعمل فيه حتى آخر لحظة ليس في حياة الإنسان الفرد فحسب، ولكن حتى آخر لحظة في حياة الكون كله، وهو ما استوعبه مالك في تعريفه للعمل: فتَعلُّم ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وتعليم هذه الحروف عمل، وإزالة أذى عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل.. وهكذا، وتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئة جديدة(1).
إن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي بعامة يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد بما في ذلك جهد السائل والراعي، وصاحب الحرفة، والتاجر، والطالب، والعالم، والمرأة، والمثقف، والفلاح، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء(2).
إن النشاط الاقتصادي الذي يقوم به المسلم يدخل في نطاق مفهوم العبادة بمفهومها الجوهري، بشرط تحقيق أمرين؛ أن يكون ذلك النشاط محقِّقًا لمقاصد الشرع في الخلق والعمران، والثاني أن يكون خالصًا لوجه الله وهو ما يتبعه شرط لازم وهو توافر الإحسان في ذلك العمل الذي يقوم به سواء كان عملًا ذهنيًا أو ماديًا.
ومبدأ العقيدة في النموذج القرآني يقوم على ربط الإيمان بالعمل، فلا إيمان بلا عمل، والعمل دون إيمان كسراب بقيعة، والتقاء العمل بالإيمان يحقق المنهج الواقعي للفكر الإسلامي، ويصبغ الشخصية المسلمة بالإيجابية، فلا رهبنة في الإسلام، ولا انعزال عن الواقع أو المجتمع؛ بل مشاركة ومبادرة ومغامرة لتحقيق العمران.
وفي هذا الصدد، يقرر النموذج القرآني مبادئ عدة لربط الإنسان بواقعه ومجال أنشطته الاجتماعية والإنسانية المختلفة، هذه المبادئ تقع بين القدرة الإنسانية وقابلية الطبيعة للتطويع من خلال المبدأ القرآني التسخير، فالنفس والطبيعة مهيَّأتان لإنجاز العمل والعمران، ويشحذ المنهج التوحيدي همة الإنسان للعمل في كل وقت حتى نهاية الكون، فإذا وقعت هذه النهاية وفي قدرة الإنسان القيام بحركة بسيطة مثل غرس الفسيلة فليقم بهذه الحركة.
إنه تقدير من المنهج لخاصية العمل وتقديس له من أجل الإنسان ارتقاءً لمهاراته وتطويرًا لحياته وممارسة لوظيفته، ولهذا ربط العلماء في تعريف الإيمان جانبين، جانب الإقرار باللسان والتصديق بالقلب، وجانب العمل أو تصديق الأركان والجوارح.
كذلك، فإن قيمة العمل الصالح أو العمل النافع التي في بؤرة التوجيه القرآني لا تتعلق بالانحياز لمجتمع المؤمنين الذين تقدم إليهم هذه الأعمال أو تمتد إلى ظلالهم هذه الصالحية والنفع، بل هي تقدم للناس جميعًا امتثالًا لخيرية الأمة التي أخرجت للناس، ومن ثم فإن الرفاه المنشود في النظام الاجتماعي القرآني ليس رفاهاً خاصاً بالمجتمع المسلم، كما يفعل النظام الرأسمالي الذي يعتبر أن الرفاه خاصة بالرأسمالين ودوائرهم الاجتماعية بما يخلق طبقتين في المجتمع يتنازعان الصراع (طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء)، بل إن حد الكفاية والاكتفاء هم الأساس في النظر الاقتصادي القرآني للمجتمع.
________________
(1) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص107.
(2) المرجع السابق، ص107.