الحج لبيت الله تعالى من أظهر مظاهر ما عرف بـ«الوحدة الإسلامية»، وهو مصطلح تعرض لما تعرضت له غالب مصطلحات الإسلام من تمييع بسبب تخليطات ثقافات وعقائد المشارق والمغارب.
وأول ما يجب أن يستفيق له الوعي المسلم أن الإسلام نزل على أساس الفرقان بين الناس، لا جمعهم! العقيدة مأخوذة من العَقْد، وهو مصدر يعني بَرم شيء وإحكام لفّه وربطه كالعقدة في الحبل، أو هو اسم يعني المعاهدة والميثاق، وكلاهما دلالة كامنة في العقيدة، فهي مجموع ما انعقد عليه الفكر والقلب من قناعة وتصديق، وهي عهد بين المُعتقِد ومُعتَقَده يفيد أنه آمن بحقانيته وعلى استعداد أن يتصرف وفقًا له، وأنه ينبذ ما عداه من عقائد صارت بالضرورة باطلة في اعتباره.
وهكذا عقيدة الإسلام تعني انعقاد قلب المسلم وفكره على ارتضاء الله تعالى ربًّا والإسلام دينًا ومحمد صلى الله وسلم نبيًّا ورسولًا، ومن ثم التعهّد بالانضباط وفق أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
إلا إنها تفترق عمّا عداها من عقائد أنها الحق لا ريب فيها حقيقة وحقًّا، وكل ما عداها باطل لا ريب في بطلانه حقيقة وحقًّا، ولذلك لمّا بعث الله تعالى رسولَه بالرسالة الخاتمة للناس، جاء الأمر التكليفي بـلفظتي «الصَّدْعِ» و«الإعراض»: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحِجْـر: 94)؛ فلم يكن الشأن مجرد الجَهْر بالدعوة، كما ساد في أدبيات السيرة والتاريخ، بل الصَّدْع بالدعوة، والصَّدْعُ في اللغة: الفرق بين شيئين، ويُستعمل في معنى الشَّق، كمــا لو تَصَدَّع الشيءُ أي تَشَقق، وعندي صُــدَاع: أي كأنّ رأسِيَ فيها تَشَقّق (لسان العرب)، وورد في تفسير الصدع فــــي الآية الكريمة: شُقَّ جَمَاعَتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وفَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى، فالحق حين أَنَزله الحق تعالى من السماء، نزل لِيَفْرُقَ بينهم! ليَفْرُقَ بين الناس على أساس التوحيد، ويَفْرُقَ بين أعمالهم على أساس الإيمان.
فتجد نوع الفُرقـان الأول في القرآن: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُــونَ) (الرّوم: 43)، والمقصود أنّ الناس يَتَصدَّعون يوم القيامة؛ أي يتفرقون فرقتين: المؤمنين والكافرين، وفي نوع الفرقان الثاني، لا يكاد يُذكر العمل الصالح في القرآن الكريم إلا مقرونًا بالإيمان، والعكس.
وهذه الواقعة التي تحكيها أُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فتقول: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي نَخْلٍ لِي، فَقَالَ: «أَغَرَسَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ؟»، فَقُلْتُ: لَا، بَلْ مُسْلِمٌ، فَقَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ نَخْلًا أَوْ يَزْرَعُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ سَبْعٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ طَائِرٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ»، فكان أول سؤال النبي عليه الصلاة والسلام ليس من غرسه، بمعنى هويّة الغارس من حيث هو شخصه بغض النظر عن دينه، بل كان سؤال الفرقان: مسلم أم كافر؛ لأن هذا الدين إنما نزل فرقانًا يفرق بين الناس على أساس التوحيد؛ وكان الجواب وعدًا بالمثوبة للمسلم فحسب لا كل إنسان غارس، لأن الله لا يقرّب ولا يقبل قُربى إلا من مؤمن به، فعجبًا والله! فيما يكون الموحّدون أول الساعين لطمس فرقان حقانيتهم والزهد فيما أكرمهم الله به من القُربى إليه!
ولذلك مما يقتضيه الإسلام من المسلم أن يعتقد هيمنة الإسلام وتصوره الشرعي للوجود، المُنَزَّل من رب الوجود، والمُنَزَّه عن عبث أي موجود، أن يعتقد هيمنته على ما عداه من التصوّرات البشرية المُلفقة، لا أنه مجرد رؤية كونية أو وجودية من بين رؤى أخرى، وكلُّ محق عند نفسه! ويجب كذلك وأن يستقيم في وعي كل مسلم إدراك أنّ قضية الإيمان والكفر ليست مجرد قضية من قضايا الوجود، بل القضية التي لأجلها أقام الله تعالى الوجود، وأرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية على مرّ التاريخ، وهي التي لأجلها يُبعَث الناس للحساب ويقومون لربّ العالمين!
وليس من التشدد أن يعتقد المسلم أن الإسلام وحده هو القائم على الحق، وأن الحق ينحصر في الإسلام، بل هذا أول مقتضيات الإسلام، أما التشدد في كل صوره فمَرَدُّه على الحقيقة إما للحيود عن مقتضيات الإسلام بدرجة أو شكل ما، لا الامتثال الحق لها؛ أو حَصْرُ المُسلمِ للحق في ذات شخصه لا في ذات الإسلام، وفي نمط تديّنه على عِلّاته لا في أصل الدين بكماله، والشأن جلل وخطير، ويتجاوز السطحية والاستهتار والتهوين الذي يتعامل به المسلمون معها، بوصفها مجرّد اختلاف ثقافيّ في الرؤى، حتى يكونوا هم من ينقلون هذا الاستهتار لا شعوريًا لغير المسلمين، فيكونون أوّل المثبّطين عن الحق وهم حَمَلتُه.
وأما عن الوحدة بين الناس، فقد قضى الله تعالى منذ خلق الخلق أنهم لن يتوّحدوا على قلب رجل واحد، بل الاختلاف لا بد واقع، وفاقًا لمراد الله تعالى في امتحان الخلق بالكفر والإيمان، من ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود)؛ وجاء في تفسير ابن كثير للآية: قد سبق في قضاء الله وقدره، لعلمه التام وحكمته النافذة، أن مِن خلقه مَن يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة والحكمة التامة.
وقد بدأ الناس من لدن آدم عليه السلام أمة واحدة على التوحيد ثم اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وتوالى بعث النبيين مبشرين ومنذرين حتى كان النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، ثم لا يزال الصراع بين الإيمان والكفر بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
بهذا ندرك أنّ مفهوم الوَحْدَة المحمودة التي يدعو لها الإسلام، هي التي تكون على أساس قواعد التوحيد الحقَّة، لا على الرغم من التعارض معه، ولا على حساب طمس معالمه وتجاهل مقتضياته ودَهْس أصوله! وأي تصور آخر للوحدة، كتصور الوحدة الإنسانية أو العِرقية أو الوطنية، يجب أن يُعرَض على ذلك الميزان ويُغربل وفاقًا له، فما وافق الحق حَقَّ، وما وافق الباطل بَطُل.
ليس بين الحق والباطل في تصور الإسلام مساحة حياد أو منطقة رمادية آمنة، أو غير ذلك من المسميات النسبية التي تفيد هلاميّة حدود الحق وانعدام أصوله، بل إمّا أن تكون على الحق أو على الباطل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ: 24)، والحق درجات والعلم به طبقات، لكن ذلك لا يعني هلاميّته أو نسبيّته أو تداخله مع الباطل، ناهيك عن إمكان الجمع المنسجم بينهما باسم الثقافة والتفتّح والوئام العالمي بغض النظر عن أي اعتبار.