في 15 أبريل 2023م، والسودانيون يتجهون إلى أعمالهم، انفجرت المواجهات العسكرية الدموية بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في مدينة الخرطوم، بعد إحباط ما قال الجيش: إنها عملية هجوم على وزارة الدفاع التي كان يقيم فيها الفريق عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة القائم بأعمال رئيس الجمهورية الانتقالي، وما يزعم «الدعم السريع» أنها مؤامرة دبرها البرهان بالتعاون مع فلول النظام البائد للتخلص من «الدعم السريع».
لم يكن اندلاع الحرب مفاجئاً للمراقبين السودانيين الذين كانوا يحذرون من خطر التنافس الحاد بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وقائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي تسبب في إذكائه الاتفاق الإطاري الذي رعته الأمم المتحدة، والذي يجرد البرهان من شركات الجيش، بينما يسمح لحميدتي بإبقاء شركاته وجيشه لمدة 10 سنوات.
قضية التطبيع مع «إسرائيل» كانت أحد أبرز مظاهر التنافس بين البرهان وحميدتي لكسبها كحليف ضد الآخر
لقد كانت قضية التطبيع مع «إسرائيل» أحد أبرز مظاهر التنافس بين البرهان، وحميدتي، فقد كان الرجلان يتنافسان على التطبيع مع الكيان الصهيوني لكسبه كحليف ضد الطرف الآخر، وقد انتصر حميدتي في النهاية على البرهان وحظي بالدعم «الإسرائيلي» ومن خلفه الدعم الغربي والأمريكي، رغم أن وسائل الإعلام الغربية تهاجم حميدتي وتتهمه بتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا بالذهب السوداني، وبانتهاك حقوق الإنسان، لكن في انتصاره وتحكمه بالسودان مصلحة «إسرائيلية» كبرى.
مرحلة انتقالية متعثرة
لقد عانى السودان منذ سقوط نظام عمر البشير، في أبريل 2019م، من مرحلة انتقالية متعثرة، وفوضى شاملة، وغياب للمؤسسات الدستورية والقانونية، تخللتها مغامرات دبلوماسية، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يعاديه الشعب السوداني، والتوقيع على ما عرف بـ«الاتفاق الإبراهيمي» الذي وقع عليه وزير عدل حكومة حمدوك بعد ابتزاز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب للحكومة السودانية بتوقيع اتفاق التطبيع لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لم تكن الابتسامات الصفراء التي خرجت من وزير الخارجية «الإسرائيلي» إيلي كوهين، وقائد الجيش البرهان، عند زيارته للخرطوم عام 2020م، تعني نهاية العداء «الإسرائيلي» للسودان، فقد استمرت «إسرائيل» تكيد للسودان بالخفاء، خصوصاً بعد انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، وبعد أن خرجت مظاهرات عدة في الخرطوم ترفض التطبيع مع «إسرائيل»، وعدم حماسة الإدارة السودانية على خطوة إضافية في العلاقات بعد أن زالت الضغوط الأمريكية.
«هاآرتس»: «إسرائيل» باعت منظومات اتصالات وتجسس لـ«قوات الدعم السريع» بعيداً عن الجيش السوداني
فقد صرح البرهان بعد فوز بايدن أن العلاقة مع «إسرائيل» لم ترقَ لمستوى التطبيع، بل هي علاقات حسن نوايا، وأنه لا فرق بين العلاقة مع «إسرائيل» بالعلاقة مع سويسرا، ورغم أن هذا الخطاب لا يعادي «إسرائيل»، فإن الكيان اعتبر عدم الذهاب إلى علاقات تحالف علنية انقلاباً سودانياً عليها؛ ما جعل «إسرائيل» تساعد قائد «الدعم السريع» للسيطرة على السلطة.
كشفت صحيفة «هاآرتس» العبرية (المعارضة لحكومة بنيامين نتنياهو) عن قيام «إسرائيل»، في مايو 2022م وقبل عام من الحرب، ببيع منظومات اتصالات وتجسس قادرة على تحويل الهاتف الذكي إلى أداة تنصت لـ«قوات الدعم السريع»، وأنهم أخذوا هذه المنظومة وقاموا بتشغيلها في دارفور بعيداً عن أعين الجيش السوداني، كما أن «إسرائيل» سلمت «قوات الدعم السريع» منظومة اتصالات فائقة الأمان حتى تكون اتصالاتهم بعيداً عن أعين الجيش.
وبذلك تكون «إسرائيل» شريكة لحميدتي في الإعداد للحرب، وتعلم توقيت ساعة الصفر التي كان يفترض أن يتحرك فيها للانقضاض على الحكم، وقد تكون نسقت ذلك بالتعاون مع أصدقائها العرب والأفارقة.
وقد نشرت شركة «military Africa» على موقعها بالإنترنت تقريراً يتحدث عن وجود بنادق «إسرائيلية» متطورة من نوع «galil ace 31 carbine» في أيدي مقاتلي «قوات الدعم السريع»، بالإضافة إلى قاذفات صواريخ «إسرائيلية» من نوع «LAR 160» من عيار 160 ملم، يبلغ مداها 45 كيلومتراً، وتستطيع قذف 26 صاروخاً في الضربة الواحدة؛ ما يؤكد أن الكيان الصهيوني شريك لـ«قوات الدعم السريع» في جرائمها ضد المدنيين السودانيين بما في ذلك الإبادات الجماعية التي حدثت في الجنينة والجزيرة.
وقد صرح مستشار قائد «الدعم السريع» على فضائية «مكان» الصهيونية الناطقة بالعربية في بداية الحرب أن «الدعم السريع» تواجه نفس أعداء «إسرائيل» وهم الجماعات الإرهابية الذين يمثلهم الجيش السوداني.
الكيان الصهيوني شريك لـ«الدعم السريع» في جرائمها ضد المدنيين السودانيين بما في ذلك الإبادات الجماعية
ورغم ذلك، فإن الجيش السوداني اختار الصمت على هذه الانتهاكات؛ حتى لا تتدخل «إسرائيل» علناً لدعم «قوات الدعم السريع»، لكن مندوب السودان الحارث إدريس في شكواه إلى الأمم المتحدة الشهر قبل الماضي، ضمّن معلومات خطيرة؛ وهي وجود ضباط مخابرات من جنسية غير عربية بالتواجد مع مستشار حكومة عربية في دولة تشاد، هم الجنرال أيان لوتان، ود. نحمان شاي، ومعين تشين، في 12 نوفمبر 2023م، في مطار أم جرس التشادي؛ لتنسيق هجمات «الدعم السريع» على مواقع الجيش السوداني، وهذه الأسماء يبدو أنها لشخصيات «إسرائيلية»، وأن المسؤول السوداني لسبب ما امتنع عن ذكر جنسية هذه الشخصيات، ولعل ذلك من أجل ألا تعترض «إسرائيل» على الشكوى السودانية من خلال نفوذها على الحكومة الأمريكية.
تغذية الحرب
لقد تولت «إسرائيل» تغذية الحرب عبر حلف من دول جوار السودان المرتبطة بها مثل إثيوبيا ورواندا وأوغندا وكينيا وجنوب السودان وتشاد التي تعددت مهام كل دولة منها، ما بين استضافة قائد «الدعم السريع»، وتوفير الوقود للمليشيا، واستغلال الاتحاد الأفريقي لفرض اتفاق يلغي سيادة السودان عبر نشر قوات أممية لنزع سلاح الجيش الوطني السوداني.
إن السودان هو هاجس الكيان الصهيوني الكبير بسبب موارده الطبيعية وأراضيه الزراعية التي تمنع حصاره وتجويعه، وهو سند للأمة العربية والإسلامية للاستغناء تماماً عن الحبوب الروسية والأوكرانية وغيرها، بالإضافة إلى الخضار والفاكهة واللحوم وتحقيق الأمن الغذائي؛ ولذلك فإن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يقبل بتطبيع مع السودان بصورته الحالية مهما قدم نظامه من تنازلات واعترافات؛ لأن حجم السودان أكبر مما ينبغي أن يكون كما يعتقد الصهاينة.
السودان هاجس الكيان الصهيوني الكبير بسبب موارده الطبيعية وأراضيه الزراعية التي تمنع حصاره وتجويعه
ففي فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير أعلنت الحكومة السودانية الموافقة على «مبادرة السلام العربية» في عام 2002م، وشارك مبعوث رئاسي سوداني في مشاورات أنابوليس في عام 2007م، وأظهر وزير الخارجية السوداني السابق إبراهيم غندور مرونة في إمكانية التطبيع الأحادي مع الكيان على غرار مصر والأردن، لكن «إسرائيل» كانت تصر إصراراً على تفكيك السودان ودعم الحركات المسلحة والنزاعات العرقية
إن «إسرائيل» تشعل الحروب والأزمات لتجد سوقاً واعدة لتجار السلاح الصهاينة، وإن أفريقيا إحدى الأسواق المفترضة للبضاعة الصهيونية القاتلة؛ ولذلك فإن «إسرائيل» تستثمر في مشكلات القارة السمراء ونزاعاتها العرقية والإثنية والدينية.