لم تكن الهجرة النبوية حدثاً عابراً أو مجرد انتقال من بلد إلى آخر، كما لم تكن فراراً من نيران الحقد وسياط الاضطهاد أو بحثاً عن الملاذات الآمنة والحياة الوادعة، ولم تكن فقط نهاية مرحلة الاضطهاد والملاحقة وبداية مرحلة التمكين والبناء.
كانت شيئاً أعمق وأبعد غوراً من ذلك كله، كانت حدثاً كثيفاً يصعب أن يحيط البيان بدلالاته ودروسه.
حيث كانت الهجرة النبوية انتقالاً من الفردية إلى الجماعية، ومن بناء الفرد لبناء الحضارة، ومن الشتات إلى الوحدة، ومن الدعوة إلى الدولة، ومن القبيلة إلى الأمة، ومن الصمود إلى الصعود، ومن محلية التحدي إلى عالمية الرسالة.
كانت ميلاداً لحضارة جديدة بعد مخاض عصيب، لعلنا نتوقف أمام بعض الدروس من ذلك الحدث المهيب:
– الهجرة ورجال البناء والعطاء:
المهاجر هو رجل ضحى بالوطن والمال في سبيل الفكرة والرسالة، وينبغي أن تظل بوصلته دقيقة لا تنحرف؛ فلا تشغله الدنيا ولا تسلبه الحياة الجديدة بآلامها وآمالها ما ضحى لأجله.
وقد كانت الهجرة النبوية كاشفة لنفاسة المعادن التي اصطفاها الله تعالى لنبيه وأبلى النبي صلى الله عليه وسلم في تربيتها أحسن البلاء.
لقد قام مجتمع المدينة على نماذج رفيعة من الرجال الرساليين الذين نذروا أنفسهم لدينهم، والمهاجر الحق رجل عطاء دائم.
وتأمل معي هذا الحديث عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أمَرَنا بالصَّدَقَةِ، انْطَلَقَ أحَدُنا إلى السُّوقِ، فيُحامِلُ، فيُصِيبُ المُدَّ، وإنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ ألْفٍ قالَ: ما تَراهُ إلّا نَفْسَهُ. (صحيح البخاري، 2273).
كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة يأمر أصحابه بالصدقة، فلا يجدون ما يتصدقون به لا من مال ولا من طعام، فيذهب أحدهم إلى السوق فيحمل البضائع للتجار سائر اليوم ويأخذ أجرته مُدًّا من طعام، والمد أكثر قليلاً من نصف كيلو يكتسبه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعرق الجبين لا ليأكلوه ولا ليدخّروه، ولكن ليتصدقوا به.
فلما هانت عليهم الدنيا سيقت إليهم صاغرة، ومضت الأيام بهم حتى ملكوا الآلاف المؤلفة والقناطير المقنطرة، فما غيَّرت من قلوبهم شيئاً.
فرق كبير بين من استعبدته الدنيا فدار الليل والنهار في رحاها، ومن ألقاها وراء ظهره وعاش عبداً لله وحده.
– هجرة لا فرار:
المهاجر خرج من بلده ليعيش لقضيته لا لينجو بنفسه، ولم تكن أي من هجرات الأنبياء هروباً، بل كانت تكليفاً إلهياً لنشر الدعوة وتمكين الدين، ولا يقدح في ذلك قول موسى عليه السلام: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21)، فإن فراره إلى مدين كان قبل النبوة، فلما تحمل الرسالة رجع بها فواجه فرعون في عقر داره.
– هجرة لا لجوء:
لقد علمنا المهاجرون الأوائل أنهم أشخاص فاعلون يصنعون الحياة لا ينتظرون عطفاً ولا إحساناً، ولا يقبلون من أنصارهم أن يقاسموهم البيوت والأموال، بل ينطلقون إلى الأسواق أسواق التجارة والزراعة والصناعة والعلم.. ليقيموا مجتمع الفكرة ونموذج الدعوة، ويرسموا ملامح المستقبل، ويمهدوا السبيل للأجيال القادمة.
فالمهاجر الحق فاعل مبدع مبادر يصنع الحياة ويبني الحضارة.
– هجرة لا غربة:
شتان بين شخصية المغترب الذي يسعى على لقمة العيش ويعد الساعات للعودة للأهل والوطن، وشخصية المهاجر الذي اختار التضحية بالوطن والأهل والصحبة والمال في سبيل الله تعالى، فهو يعيش جمال التضحية ولذة الطاعة لا ألم الغربة ولا لوعة الفراق، فالقضية عقيدة، والأوطان تبع لها، وحتى عندما حانت لحظة العودة للوطن لسيد المهاجرين صلى الله عليه وسلم كانت لحظة خاطفة سرعان ما عاد بعدها أدراجه إلى المدينة التي بات حبه لها -في إطار الرسالة- كحبه لمكة أو أشد.
– هجرة لا فرصة عمل:
المهاجر يسعى للنجاح ليخدم قضيته وفكرته، ومن ثم فالعمل والكسب وسيلة لا غاية، وما كانت أموال عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعد بن عبادة إلا أموالاً للدعوة ورصيداً للأمة.
– هجرة لا راحة:
المهاجر خرج من بلده ليواصل كفاحه ويرفع لقضيته راية جديدة في بيئة صالحة، فإن ركن إلى الراحة وخلد إلى السكون فقد انسلخ من الهجرة إلى الدنيا، ومن الدعوة إلى الدعة، وباع الغالي النفيس بالزائف الرخيص.
فكونوا مهاجرين حقاً؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (218).