ملاحم يومية يسطرها أهل غزة بكل أطيافهم بداية من أطفالهم وحتى شيوخهم ونسائهم، لا تختلف التضحيات بين طائفة وأخرى، ربما تتباين في نوعيتها، لكنها بنفس الشراسة والطغيان، ومن هؤلاء الذين يدفعون ثمناً غالياً من حرياتهم وسلامتهم، فئة ثبتت تحت سماء تمطر موتاً في كل وقت لمجرد إصرارهم على تأدية مهامهم الإنسانية المشروعة، وبالرغم من حماية القانون الدولي لهم، فإن رصاص الاحتلال لا يفرق بينهم وبين غيرهم في الاستهداف بالقتل أو الاعتقال والخطف الممنهج والتعذيب غير الإنساني على يد عدو لا يعرف الرحمة.
هؤلاء هم أطباء غزة في مستشفياتها التي فقدت كافة قدراتها على علاج مصاب حرب ظالمة أو مريض يحتاج لخدمة، وبالرغم من هذا هم ثابتون في بطولة نادرة.
ثم صحفيوها المعنيون بنقل الحقيقة التي يحرص الاحتلال على إخفائها، ومع ذلك وبفضل هؤلاء الثابتين تتسرب الحقيقة للعالم بكل تفاصيلها غير عابئين بالموت المترقب في كل شارع، وفوق كل خيمة لا تستر صراخ الأطفال والنساء خلف قماشها المهترئ.
الاعتقال التعسفي ودحض الرواية «الإسرائيلية»
لمدة 7 أشهر كاملة، اعتقل الاحتلال مدير مجمع الشفاء الطبي د. محمد أبو سلمية بعد اقتحامه للمستشفى وارتكابه مجازر يندى لها جبين البشرية في حق المرضى والمصابين ومن استجار من نير الحرب فلجأ للمستشفى، علاوة على الأطباء، ومنهم من فقد عائلته كاملة وما زال مصراً على الاستمرار في علاج المصابين وعدم مغادرة موقعه، وطاقم العمل بالمجمع من قتل بالجملة وتشويه للجثامين وإقامة مقابر جماعية بساحة المستشفى وتدمير للأجهزة وحرق طال حتى جدرانها التي ما تزال شاهدة على إجرام عدو لا يمت للإنسانية بصلة بحجة أن قادة المقاومة يديرون عملياتهم الحربية بالمستشفى أو يخفون الأسرى به.
تم اعتقال مدير المستشفى بعد توجيه لائحة مكذوبة من الاتهامات التي تدعو للسخرية دون أدنى دليل، بينما المجمع بأكمله على الهواء مباشرة على مدار الساعة، ثم بعد 7 أشهر يفرج ضمن 50 من المعتقلين الآخرين ليدحض كافة الادعاءات «الإسرائيلية»، وينسف كافة رواياتهم حول استخدام المستشفيات التي تم تدميرها بالفعل فوق رؤوس من فيها كانت كاذبة، وأن الاتهامات التي أعلنتها دون أدلة فدمرت أكبر صرح طبي في فلسطين كلها على أساسها كانت واهية.
فبأي قوة استطاع الكيان أن يقوم بتلك الأعمال الوحشية، وبأي وجه يتعامل مع العالم مع تلك المذابح غير المسبوقة بعد اعترافهم الضمني بعدم وجود سلاح أو مقاومين؟ لماذا كان قتل المرضى في غرف العناية المركزة ومراكز الغسيل الكلوي؟ وبأي قانون قطعوا الكهرباء عن الأطفال المواليد في حضاناتهم ليموتوا دون حتى أن يعيشوا؟ وبأي حق شردوا من شردوه، وقتلوا من قتلوه ممن احتمى بالمجمع من الأبرياء؟ ماذا بعد الاعتراف؟ وكيف سيرد العالم حق الأبرياء بعد إثبات براءتهم؟ وقبل كل هذا، لماذا التعذيب الوحشي للمعتقلين خاصة من الأطباء والطواقم الطبية التي لم تحمل سلاحاً ولم تفكر في حمله؟ ليتضح أن العداء الصهيوني ليس للمقاومة، وإنما لكل ما هو فلسطيني، أو لكل ما هو إنساني.
لقد عانى أطباء غزة ما لم يعانه أطباء غيرهم في أي بقعة من العالم، في أنفسهم وأهليهم ومعارفهم، لم يعد غريباً أن ينقل الإسعاف عشرات المصابين وعشرات الشهداء ليهرع الطبيب فيجد أن المصاب أبوه، أو يجد الشهيد ابنه أو زوجته أو إخوانه، فلا تجد منه إلا البكاء ثم مواصلة عمله في إنقاذ من يمكن إنقاذه بأقل إمكانات ممكنة، فهم أبناء غزة، والمصاب مصابهم، والشهيد ابنهم، والجريح قريبهم.
ومع ذلك، فما زلنا نندهش كل يوم من ثبات هؤلاء وهم يعملون في أقسى الظروف المعروفة ولا يريدون الخروج، وقد احتسبوا أنفسهم لله تعالى، لقد أدهشوا العالم وأجبروه على المتابعة والسماع.
وهذا مادس غيلبرت، مسؤول الفريق الطبي النرويجي إلى غزة سابقاً، في حديث إلى «التلفزيون العربي» من أوسلو، في 2 يوليو 2024: نحيي صمود الأطباء المعتقلين لدى الاحتلال ومنهم أبو سلمية وباقي الأطباء والمعتقلين الآخرين الذين لم يجب اعتقالهم في البداية وسط وجود أعداد أكبر من المختطفين لدى الاحتلال من غزة، فرغم التعذيب الذي تعرض له أبو سلمية فإنّه وعد ببناء مجمع الشفاء الطبي والمنظومة الصحية في غزة.
وأكد غيلبرت أنه بعد إطلاق أبو سلمية بدون تهمة موجهة إليه، فإن غالبية النرويجيين شاهدوا كذب الرواية «الإسرائيلية» وهم يريدون مقاطعة «إسرائيل» وفرض عقوبات عليها، وكل أسبوع هناك تظاهرات واسعة وخاصة من العاملين في القطاع الطبي ضد الانتهاكات التي تتعرض لها الطواقم الطبية في غزة.
ومن الأطباء المعتقلين من لا يعود ويموت تحت سطوة التعذيب، ومنهم د. عدنان البرش، الطبيب بمستشفى الشفاء، وقد استشهد بعد تعذيبه على يد الاحتلال لتموت معه شهادته عن وحشية المحتل الغاشم، ومنهم من فُقِد تحت قصف المستشفيات دون أن يحاول الهرب بحياته، ومنهم من خسر أهله جميعاً شهداء ولم يفكر لحظة في التخلي عن مهامه الإنسانية، فمن مثل أطباء غزة؟!
شهداء الصحافة وجرائم لا تنسى بالتقادم
اعتاد بعض الصحفيين المهمات الصعبة، أو المهمات المستحيلة، وبالرغم من وجود قوانين دولية ومواثيق وعهود تحمي كل من يحمل كلمة «press»، فإن رصاصات الطغيان لا تفرّق بين من يحمل مدفعاً، ومن يحمل طبقاً فارغاً يبحث به عن بقايا الطعام ليسد رمق أسرته المنتظرة وقد أرهقها الجوع والخوف، ومن يحمل قلماً أو ميكروفوناً أو كاميرا ينقل بها الصورة كي لا يموت الأبرياء في صمت، ينقل حقيقة من رفض الخضوع والبيع وفضل الموت في أرض قد كان يرجو الحياة فيها.
فعلى صعيد آخر، تعامل الاحتلال في حرب «طوفان الأقصى» بغشم غير مسبوق، ضارباً بعرض الحائط كافة المواثيق والأعراف الدولية التي تحمي الصحفي الذي ينقل الخبر، وقد تابع العالم على الهواء مباشرة استهداف الصحفيين وعائلاتهم بشكل مبالغ فيه فضحه مراسل قناة «الجزيرة» وائل الدحدوح، مدير مكتب «الجزيرة» في القطاع، الذي أصيب بقصف صاروخي «إسرائيلي» على مدرسة في خان يونس، بينما أدى ذلك القصف لاستشهاد زميله المصور الصحفي سامر أبو دقة، وذلك بعد استشهاد عائلة الدحدوح زوجته وأبنائه انتقاماً منه ومن زملائه الذين يفضحون ممارسات جيش الاحتلال الإجرامية.
وصرح مكتب الإعلام الحكومي في غزة، في بيان له بتاريخ 6 يوليو الجاري، أن عدد شهداء الصحافة ارتفع إلى 158 شهيداً منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وذلك بعد ارتقاء الصحفي الشهيد سعدي مدوخ، وأديب سكر، وأمجد جحجوح، ووفاء أبو ضبعان، وأخيراً رزق أبو شكيان، الصحفي في «وكالة فلسطين الإعلامية».
إن مسلسل قتل الصحفيين واستهدافهم عمداً ليس جديداً على جيش الاحتلال وليس مستغرباً، فذلك ديدنهم طيلة فترة الصراع منذ احتلالهم أرض فلسطين، لكن الجديد أن يكون بهذا الحجم والكم والقتل العمد دون خوف من محاسبة دولية أو قانونية.
وما زالت قضية مراسلة «الجزيرة» الصحفية شيرين أبو عاقلة قيد التحقيقات الدولية في جريمة شهدها العالم، ولنا أن نتخيل صحفياً ترك بيته وأهله لا يملك سوى الكلمة والحقيقة لينقلها، هو فلسطيني الأصل نشأ حاملاً لقضية بلاده التي ولد على أرضها ليجدها الوطن الوحيد المكبل في العالم بعدما أبطلت القوانين الدولية كل ما يتصل بالاحتلال، فكل الأوطان محررة إلا فلسطين، يخرج من داره المنتهكة على الدوام يقاتل بالحقيقة ينقلها للشعوب شاهداً على جرائم لا تفرق بينه وبين المقاتلين حاملي السلاح، فلا تحميه كاميرا، ولا يحميه قلم.
رحم الله شهداء فلسطين؛ أطباء وصحفيين ومدنيين ومقاومين.