خلق الله الإنسان مزوداً بإمكانات وقدرات متنوعة تيسيراً لحياته، توطئة لتحقيق الغايات المقدورة من خلق هذا الإنسان، وهذه الإمكانات المتنوعة مركبة في الطبع البشرى تركيباً متكاملاً متوازناً بحيث لا تؤدي كل منها الوظيفة المنوطة بها إلا إذا ضبط الإنسان وضعها ونسبتها في مزاج شخصيته، فلا تطغى إحداها على سواها، ولا تسمح لغيرها بالطغيان عليها، ومن ثم فإن كل خلل عملي في سلوك الإنسان إنما يرجع في حقيقته إلى خلل في ضبط ما بين هذه الطاقات والاستعدادات من نسب.
ومن هذه الطاقات ما هو نفساني داخلي، ومنها ما هو عقلي، ومنها ما هو في أجزاء جسمه المختلفة، وقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن يكون لتلك الجوانب النفسية في طبيعة الإنسان نوع سيطرة وتحكم على سواها من الطاقات العقلية والجسمية، ومن هنا كان تغيير البعد النفسي من أبعاد شخصية المرء هو أهم وأبرز عوامل التغيير، وهذا في الحقيقة ما يجعل عملية التغيير تتسم بالصعوبة وتكتنفها الكثير من الأخطار والإشكالات لأنها تتحرك في هذا الإطار المعقد، شديد التعقيد؛ إطار النفس البشرية.
وإذا أردنا الاستطراد نستطيع القول: إن واقع المجتمعات في هذا الصدد لا يختلف كثيراً عن واقع الأفراد، فقد تختل النسب بين الأجزاء المكونة لجسم المجتمع فيكون في اختلالها الشر والبوار، والعلاقة من ثم بين واقع الأفراد، وما عليه واقع المجتمعات التي يعيشون فيها مما لا يحتاج إلى جهد للبرهنة عليه، ومن هنا كانت عملية التغيير الاجتماعي في المنظور الإسلامي تبدأ بدايتها الصحيحة من تغيير الأفراد، أو بالأحرى تغيير ما في نفوسهم؛ أي ضبط النسب المتفاعلة في تركيب هذه النفوس ضبطاً يعيدها إلى جادة التوازن، ويؤهلها لمعاودة إنتاج السلوك القويم.
ولا يخفى أن هذه الطاقات جميعاً قد ركبت في كينونة هذا المخلوق المكرم تركيباً دقيقاً بديعاً تتجلى فيه عظمة الخالق سبحانه ودقة صنعة وبالغ حكمته ورحمته بخلقه، إذ نراها متداخلة يؤثر بعضها في بعض، متكاملة لا يستغني أحدها عن الآخر، متوازنة لا يطغى أحدها على الآخر إلا أن يشاء الله أمرًا لحكمة يعلمها تتعلق بذلك المخلوق في سابق علمه الأزلي المحجوب.
إن هذا التداخل والتكامل والتوازن إنما كان لتيسير لهذا الإنسان حياته، ويستقيم له من أمر نفسه ما يؤهله للقيام بالوظيفة المنوطة به في الأرض، ويبدو لي أن ما بين الطاقات من تداخل، وتكامل مما لا تمتد إليه يد الإفساد البشرى في الغالب إلا على نحو يسير لحكمة عظيمة؛ إذ به تستمر حياة الإنسان ويستمر وجوده، أما التوازن فهو قد يتأثر بعوامل التطبيع الاجتماعي والبيئة الخارجية، ومن ثم يتعرض لما تتعرض له كل ما تمتد إليه يد البشر من إفساد أو إصلاح، ومن ثم فإن كل خلل في سلوك الإنسان، وكل انحراف عن أداء ما خلق له من غايات قدرية، إنما هو خلل راجع إلى عدم انضباط ما بين هذه الطاقات من نسب إن طغى بعضها على بعض بفعل عوامل خارجية في الأغلب الأعم، ومن ثم يكون الانحراف الكبير، والشر المستطير.
قد تزداد عناية المرء برياضة جسمه فيشغله ذلك شيئاً ما عن رياضة وصقل مهارات وقدرات عقله، وإن كان قيل قديمًا: «إن العقل السليم في الجسم السليم»، فإن ما نراه اليوم لدى كثير من الرياضيين في مختلف البلدان قد يخرق تلك المقولة، وقد ينطبق على بعضهم المقولة الأخرى: «جسم البغال وأحلام العصافير»!
وقد يشتط المرء في العناية بالجانب الروحي فيسرف في مجاهدة نفسه إسرافًا قد يؤذي صحته البدنية والعقلية، وكم شاهدنا ونشاهد من مختلين من منتسبي ديانات شتى ومن بينهم مسلمون ممن كانوا ضحية لذلك الإسراف في العناية بالمكون الروحي من مكونات الذات الإنسانية، وهكذا فقد يستطير المرء ولعاً بشيء ما، فيصير لديه كالمرض الملازم الذي يصرفه عن أمور أخرى ذات بال، وقديماً قيل: «حبك الشيء يعمى ويصم»، والأمثلة على هذا مما لا تخطئه العين في دنيا الناس.
وبعد، فهذه دعوة للعقلاء للاتزان والاعتدال في كل ما يأتون من أمورهم أو يدعون، ولأمر ما يسمع المسلمون مقولة عند تسوية صفوفهم للصلاة تلك العبارة البليغة بعيدة الغور: استقيموا يرحمكم الله.