حينما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، كان دَيْنها المالي نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع دخولها الحرب العالمية الثانية، ارتفع الدين لنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع خروجها من الحرب العالمية الثانية، قفز حجم الديون الأمريكية من الناتج المحلي الإجمالي إلى 120%، لكن الآن، أن أمريكا، وبدون دخولها أي حرب، بلغ حجم ديونها نسبة للناتج الإجمالي 130%!
يعني هذا أن الولايات المتحدة لا تستطيع في الوقت الراهن تحمل زيادة إنفاق الميزانية على أي شيء، سواء كان زيادة في ميزانية الجيش، أو حرباً كبرى، أو حتى تحديثاً للبنية التحتية للبلاد؛ حيث يشكل جبل الديون هذا أرضاً خصبة للمشكلات الاقتصادية، بما في ذلك ارتفاع التضخم، وانخفاض نوعية الحياة، وفي أسوأ السيناريوهات زعزعة استقرار النظام المالي الأوسع، وفقاً لموقع «بيزنس إنسايدر».
ومع هذا أنعمت أمريكا على دولة الاحتلال الصهيوني بأكبر دعم ممكن خلال حرب عدوانها على غزة، حيث أقرت لها حزمة مالية طارئة -بخلاف الحزم المالية المعتادة- بقيمة 14 مليار دولار، منها 3.5 مليارات تسلمتها، في 9 أغسطس 2024م، وهذا بخلاف المساعدات العسكرية بلا حساب، وفتح مخازن السلاح الأمريكية في «إسرائيل» ليغرف منها العدو ويقتل أهالي غزة، وتكاليف تحريك الأسطول الجوي والبحري لحماية دولة الصهاينة.
أصوات ترتفع بأمريكا رافضة لدعم «إسرائيل» بالمال والسلاح وتفضيلها على مصالح المواطن
وقال الخبير الاقتصادي الدولي في مجال النفط والطاقة د. ممدوح سلامة: إن الدعم الأمريكي منع انهيار الاقتصاد «الإسرائيلي» الذي خسر 200 مليار دولار بسبب هذه الحرب، لكن المفارقة أن كل هذا يحدث في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي أصلاً من مشكلات كبيرة، ظهرت في ضربة البورصات العالمية الأخيرة، كما يعاني المجتمع الأمريكي من درجة كبيرة من الترهل والكسل والاستهلاك.
وقد حذر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، في 9 أغسطس 2024م، من أن بلاده في أخطر وضع ممكن الآن اقتصادياً وأمنياً، وقال محذراً: إننا قريبون جداً من حرب عالمية بسبب الاقتصاد، إن الولايات المتحدة باتت قريبة من الكساد الاقتصادي.
هذا الانهيار الاقتصادي يتوقع أن ينعكس بلا شك على الدعم الأمريكي للدولة الصهيونية عاجلاً أو أجلاً، خاصة أن الأصوات بدأت ترتفع في أمريكا رافضة لدعم «إسرائيل» بالمال والسلاح وتفضيلها على مصالح المواطن الأمريكي الذي يعاني من البطالة، فالمظاهرات التي شهدتها المدن الأمريكية المختلفة كانت مؤشراً واضحاً لهذا الرفض في تحكم اللوبي الصهيوني بالقرار الأمريكي وتفضيل حكام البيت الأبيض أو الكونجرس مصالح «إسرائيل» على مصالح الأمريكيين.
وقد نجح طلاب أمريكا في إجبار جامعاتهم على وقف استثماراتها (أموال أوقافها) في «إسرائيل» أو شركات تدعمها؛ ما أفقد الاحتلال جانباً مهماً من عوائد هذه الاستثمارات أو أوقاف الجامعات الأمريكية التي تقدر بـ839 مليار دولار، وفق صحيفة «واشنطن بوست»، في 25 أبريل 2024م.
ورفع طلاب أغلب الجامعات الأمريكية عرائض ولافتات وأصدروا بيانات تطالب بوقف استثمارات خاصة بجامعاتهم أو حكومتهم تذهب بعض عوائدها لجيش الاحتلال وحكومة «تل أبيب»، وبما يدعم العدوان على غزة وإبادة أهلها.
استطلاع: معارضة أغلبية الأمريكيين إرسال قوات للدفاع عن «إسرائيل» في حال تعرضها لهجوم
وما أزعج الاحتلال الصهيوني أن حملة المقاطعة هذه بدأت تؤتي ثمارها، فقد قررت جامعة يورك البريطانية إنهاء علاقاتها المالية مع الشركات المصنعة للسلاح التي تقدم ذخيرتها لجيش الاحتلال، واستبقت جامعة بورتلاند الاحتجاجات المؤيدة لسحب الاستثمارات من الحرم الجامعي، وقررت في رسالة بعثت بها إلى أعضاء هيئة التدريس والطلاب وقف قبول أي تبرعات للجامعة من شركة «بوينج» لأنها مشاركة في آلة الحرب «الإسرائيلية».
وجاء هذا النجاح لحملة المقاطعة بعدما وصل عدد الجامعات المعتصمة من أجل فلسطين والمطالبة بوقف أي استثمارات أمريكية في «إسرائيل» أو دخول جامعاتهم في استثمارات مع شركات تدعم «إسرائيل» إلى قرابة 75 جامعة.
كفى دفاعاً عن «إسرائيل»
الانهيار الاقتصادي الأمريكي وأثره على الشعب دفع أمريكيين لرفع شعارات «كفى لدعم إسرائيل من أموال ضرائبنا»، وأكدت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن استطلاعاً للرأي، نشر في 6 أغسطس 2024م، أظهر معارضة أغلبية الأمريكيين إرسال قوات للدفاع عن «إسرائيل» في حال تعرض الأخيرة لهجوم من الدول المجاورة لها، وهو ما يمثل تغييراً في الرأي العام.
استطلاع الرأي الذي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية أظهر أن 55% من الأمريكيين عارضوا إرسال قوات أمريكية للدفاع عن «إسرائيل» إذا هاجمها جيرانها، بينما أيد 41% القيام بذلك؛ هذا يعني أن تأييد الأمريكيين لإرسال قوات إلى «إسرائيل» انخفض إلى أقل نسبة خلال أكثر من عقد من الزمن، وفق الصحيفة.
وفي 2 أغسطس 2024م، شهدت البورصة الأمريكية انهياراً كبيراً، وتبعه انهيارات في البورصات العالمية، وحالة ذعر شديدة في بورصات الولايات المتحدة وبريطانيا ودول منطقة اليورو واليابان والصين ومصر ومنطقة الخليج، وأظهرت إحصائية حديثة مشكلات كبيرة في سوق العمل الأمريكية، وارتفع معدل البطالة من 4.1% إلى 4.3% وفق صحيفة «الغارديان» البريطانية، في 6 أغسطس 2024م.
«إسرائيل» أكبر متلقٍّ للمساعدات الأمريكية حيث بلغت بين عامي 1946 و2023م نحو 158.6 مليار دولار
وتعد «إسرائيل» أكبر متلقٍّ للمساعدات الخارجية الأمريكية، حيث بلغت المساعدات الإجمالية المقدمة من الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» فيما بين عامي 1946 و2023م نحو 158.6 مليار دولار، وفق الأرقام الرسمية الأمريكية، لكن بحسب بيانات «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية»، فإن حجم المساعدات أكبر بكثير مما جاء في التقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات الأمريكية الملتزم بها لـ«إسرائيل» في الفترة ذاتها نحو 260 مليار دولار.
ومعظم المساعدات الأمريكية لـ«إسرائيل» عسكرية، حيث بلغ حجمها فيما بين عامي 1946 و2023م، بحسب التقديرات الأمريكية الرسمية، نحو 114.4 مليار دولار، إضافة إلى نحو 9.9 مليارات دولار للدفاع الصاروخي (منظومة القبة الحديدية).
اللوبي الصهيوني
ولا يعكس حجم الدعم السياسي والمساعدات الخارجية الأمريكية لـ«إسرائيل» مقدار الاهتمام الذي توليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتثبيت وجود دولة الاحتلال في الشرق الأوسط، التي تعتبرها الولايات المتحدة شريكاً حيوياً في المنطقة، تجمعها به أهداف إستراتيجية مشتركة فقط، ولكنه يعكس أيضاً حجم تغلغل اللوبي اليهودي في القرار الأمريكي، أو حكم «إسرائيل» لأمريكا وليس العكس؛ حيث تشير تقديرات أمريكية إلى أن اللوبي «أيباك» ينفق ما بين 200 إلى 300 مليون دولار سنوياً لشراء السياسيين الأمريكيين.
وقد خصص هذا اللوبي الصهيوني 100 مليون دولار لتشويه وإسقاط حوالي 7 نواب في الكونجرس الأمريكي في انتخابات عام 2024م بحسب موقع «الديمقراطية الآن»، في يناير 2024م، يسميهم «فرقة غزة» بسبب رفضهم العدوان «الإسرائيلي».
ونجح بملايين الدولارات في إسقاط بعضهم، مثل النائب جمال بومان، والنائبة كوري بوش، لأنهم يساهمون في منع الدعم الأمريكي لـ«إسرائيل»، ويطالبون بوقف إهدار أموال أمريكا على «إسرائيل»، بينما الشعب الأمريكي في حاجة ماسة لها في ظل الانهيار الاقتصادي المستمر.
لذا، هددت نائبة الكونجرس الداعمة لغزة كوري بوش بإسقاط هذا اللوبي الصهيوني قائلة: «أنا قادمة لهدم مملكتكم»، وسط حالة من الرفض الشعبي المتزايد للدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» على حساب الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه أمريكيون.