قال ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمَا وَافَقَ السُّنَّةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ، فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَمَلِ(1)، وقال سفيان الثوري: كان الصحابة يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل، وقال أبو حامد الغزالي: اطلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير(2).
في هذه الأقوال دليل على أهمية اكتساب النية الصادقة وتعلمها؛ فعليها مدار الأعمال وقبولها، وزيادة أجرها وثوابها، فما السبيل إلى اكتساب النية الصادقة(3)؟
1- استحضار الغاية:
إن غاية المسلم اكتساب رضا الله تعالى والفوز بجنته، ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية إلا بإفراد الله تعالى بالقصد في كل عمل، والإخلاص له في كل حال؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، فقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر: 11)، وقال عز وجل: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5)، وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الدُّنيا على الإخلاصِ للهِ وحدَه وعبادتِه لا شريكَ له وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ فارقها واللهُ عنه راضٍ».
2- استحضار عواقب العمل:
إن استحضار عواقب الخير وثمراته يجعل النفس تشتاق إلى تحصيله وتسعى بكل قوة إلى فعله، كما أنها تستقبح عاقبة السوء وتنفر من الأفعال الموصلة إليها، والناظر في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى تحدث كثيراً عن الثواب والعقاب، ليرغب الناس في طاعته وينفرهم من معصيته.
وعندما نقرأ في القرآن الكريم آيات الثواب على عبادة الجهاد مثلاً، نجد أنها تلهب الحماسة وتدفع إلى الإقدام في سبيل الله، وتجعل النفس تخلص في سعيها لله وحده، حتى تدرك ما تسعى إليه، حيث قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)، والناظر في سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنهم كانوا يسمعون منادي الجهاد يذكرهم بفضل الجهاد والاستشهاد فيقومون ويتركون شهواتهم وحاجاتهم طمعاً في إرضاء ربهم ودخول جنته.
ومن ذلك ما رواه مسلم عن أنس بن مالك في غزوة «بدر» حين دنا المشركون، فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ»، قالَ: عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأنْصَارِيُّ: يا رَسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ؟ قالَ: «نَعَمْ»، قالَ: بَخٍ بَخٍ! فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما يَحْمِلُكَ علَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟»، قالَ: لا وَاللَّهِ يا رَسولَ اللهِ، إلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِن أَهْلِهَا، قالَ: «فإنَّكَ مِن أَهْلِهَا»، فأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِن قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ منهنَّ، ثُمَّ قالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتي هذِه إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قالَ: فَرَمَى بما كانَ معهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حتَّى قُتِلَ.
3- استحضار هيبة من تؤدي إليه العمل:
إن الله تعالى عظيم، وهو على كل شيء قدير، ومن مقتضى عظمته وهيبته أنه لا يقبل من العبد أن يشرك مع الله غيره، فإن فعل؛ ردّ الله عليه عمله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قالَ اللَّهُ تَعالَى: أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ»، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بن حنبل عَنِ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ، قَالَ: يُعَالِجُ نَفْسَهُ، إِذَا أَرَادَ عَمَلًا، لَا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ(4).
كما لا يريد به المنفعة أو التعظيم لنفسه، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجلُ يُقاتِلٌ حميَّةً ويُقاتِلُ شجاعةً ويُقاتِلُ رياءً فأنَّى ذلك في سبيلِ اللهِ؟ قال: «مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيلِ اللهِ»، ففي هذا دليل على أن استحضار عظمة الله تعالى من شأنه أن يجعل العبد لا يشرك معه غيره في العبادة والعمل الصالح، كما أن استحضار عظمة الله تعالى تدفع العبد إلى عدم معصيته.
4- كثرة لقاء أهل الخير والصلاح:
إن ملاقاة الصالحين ومجالستهم تذكر المسلم بربه وتحجب عنه مطامع نفسه ووساوس شيطانه، وتبعث فيه روح التنافس في الخير مع استصحاب النية الصالحة، والتحذير من مداخلة الشيطان، ولهذا روى البخاري أن معاذاً بن جبل كان يقول للأسود بن هلال: اجلس بنا نؤمن ساعة، وقال الإمام الذهبي: الْتَقَى سُفْيَانُ الثوري وَالفُضَيْلُ بن عياض، فَتَذَاكرَا، فَبَكَيَا، فَقَالَ سُفْيَانُ: إِنِّيْ لأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ مَجْلِسُنَا هَذَا أَعْظَمَ مَجْلِسٍ جَلَسْنَاهُ بَركَةً، فَقَالَ لَهُ فُضَيْلٌ: لَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُوْنَ أَعْظَمَ مَجْلِسٍ جَلَسْنَاهُ شُؤْماً، أَلَيْسَ نَظَرتَ إِلَى أَحْسَنِ مَا عِنْدَكَ، فَتَزَيَّنْتَ بِهِ لِي، وَتزَيَّنتُ لَكَ، فَعَبَدْتَنِي وَعَبَدْتُك؟ فَبَكَى سُفْيَانُ حَتَّى علَا نَحِيبُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَحْيَيْتَنِي، أَحْيَاكَ اللهُ(5).
5- النظر في سير المخلصين:
إن الصالحين يحرصون على إخلاص نواياهم وإصلاح بواطنهم وظواهرهم، وإن كثرة مطالعة أحوالهم يدفع إلى التأسي والاقتداء بهم، فقد قال أبو يعقوب السوسي عن المخلصين: إنهم متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص؛ احتاج إخلاصهم إلى إخلاص، وعن ذي النون قال: ثلاثة من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب العمل في الآخرة، وعن أبي عثمان قال: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، وعن حذيفة المرعشي قال: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن(6).
_______________________
(1) جامع العلوم والحكم: ابن رجب (1/ 70).
(2) إحياء علوم الدين: الغزالي (4/ 364).
(3) راجع: على مأدبة القرآن: نخبة من العلماء، ص 176.
(4) جامع العلوم والحكم: ابن رجب (1/ 64).
(5) سير أعلام النبلاء (7/ 267).
(6) المجموع شرح المهذب: النووي (1/ 37).