روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي قتادة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن صوم يوم الإثنين، فقال: «ذاكَ يَومٌ وُلِدتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»، ففي الحديث دلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صيام يوم الإثنين، حتى اشتهر ذلك بين الناس، وتساءلوا عن سببه.
لقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤال أصحابه الذي سألوا فيه عن سبب اعتياده الصيام في يوم الإثنين، فأوضح لهم أنه يوم وُلد فيه، وبُعث فيه، وأُنزل عليه الوحي فيه، فكان صيامه عليه الصلاة والسلام علامة على الشكر لله تعالى أن أوجده في هذه الحياة وبعثه وأنزل عليه الوحي.
لقد عُرِف الصوم على أنه علامة ودليل على شكر الله تعالى على نعمه، ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
نعمة مولد النبي وبعثته
أوضح القرآن الكريم أن الله تعالى قد كرّم يوم الولادة لأنبيائه وأصفيائه؛ فقال سبحانه في حق سيدنا يحيى عليه السلام: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) (مريم: 15)، وقال عز وجل في حق سيدنا عيسى عليه السلام: (وَالسَّلَامُ عليَّ يَومَ وُلِدْتُ) (مريم: 33)، وذلك أنَّ يوم الميلاد حَصَلَت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فما بالنا بيوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سبب لكل خير ونعمة ننالها في الدنيا والآخرة؟!
وقد أثبت القرآن الكريم أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته نعمة تستحق الشكر، حيث قال عز وجل: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164).
لماذا يصوم المسلمون في ذكرى المولد؟
سبق بيان أن الشكر قد يكون بصيام اليوم الذي أنعم الله تعالى فيه بالنعمة على العبد، قال ابن رجب الحنبلي: إن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نعم الله على عباده لو صامها الناس شكراً؛ كان ذلك حسناً(1)، فإذا كان الشكرُ بصيام اليوم الذي نجَّى الله فيه سيدنا نوحًا عليه السلام، ونصر فيه سيدنا موسى عليه السلام مستحبًّا؛ فإنَّ اليوم الذي ولد فيه خير البشر صلى الله عليه وسلم أرغبُ وأولى بالصيام مِن غيره، لأن ولادته وبعثته صلى الله عليه وسلم هي خير نعمة على البشرية، وشكر النعمة واجب، حيث قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، وقال عز وجل: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: 114).
ولما كان الصيام دليلاً على شكر النعمة كان صيامنا ليوم مولده صلى الله عليه وسلم بمثابة عمل شكر لله تعالى على نعمه، قال ابن رجب الحنبلي: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وأُنْزِلَت عَلَيَّ فيه النُّبُوَّة» إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده، فإنَّ أعظمَ نعم الله على هذه الأمة إظهارُ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثته وإرساله، فإنَّ النعمة على الأمة بإرساله، أعظمُ مِن النعمة عليهم بإيجاد السماء والأرض والشمس والقمر والرياح والليل والنهار وإنزال المطر وإخراج النبات وغير ذلك.
فصيام يوم تجددت فيه هذه النعم مِن الله على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو مِن باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر، ومن هذا المنطلق فإن المسلمين يصومون في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسببين:
الأول: شكراً لله تعالى أن أرسل رسوله ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ويهدينا إلى الصراط المستقيم، ويكون شفيعنا يوم الدين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة: 2).
الثاني: اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد داوم على صيامه، فنحن نصومه كما صامه صلى الله عليه وسلم.
______________________
(1) فتح الباري: ابن رجب (1/ 174).