من القواعد المقررة في الإسلام تربية الإنسان والعناية به تربية متكاملة تشمل: روحه وخُلقه وعقله وبدنه وحسّه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وحسّه الجمالي، وإعداده للجهاد لتكون كلمة الله هي العليا؛ فيما يُعرف بـ«مفردات التربية الإسلامية»، بما تحمل من قيم رفيعة ومنهج متكامل يضمن لمن تمسّك به خيْري الدنيا والآخرة.
وتربية الإسلام للعقل تعني توجيهه وتسديده وتهيئته للعمل حتى أحسن مستوى له، فيمارس المسلم أعماله بكل حرية، وبأداء جيد لأدوار العقل من فهم وتصور وتأمّل وتدبر لما يدركه، وبكل ما يحيط به، فيستطيع التفكير والتحليل وإصدار الحكم على الأمور، وأن يهتدي لما يعصمه وينفعه.. ولهذه التربية العقلية الإسلامية روافد، وهي الكتاب والسنة، بما احتويا من أخبار الأولين، وموقفهم من رسلهم وأنبيائهم، ومن أخلاق وقيم، ومن أحكام عديدة شملت كل فروع الحياة الإنسانية.
أهداف التربية الإسلامية للعقل
تستهدف تربية الإسلام للعقل تكريم الإنسان، باحترام عقله، وهو من أكبر نعم الله عليه، وهو الذي يميّز بين إنسان مكلّف وآخر عاجز عن التكليف، وحسب العقل مكانةً أن به يُعرف توحيد الله تعالى، وهو ما يقوم عليه الإيمان كله، وشتان بين من يعقلون ومن لا يعقلون؛ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة: 44)، وقد وضع علماء الإسلام عددًا من أهداف التربية الإسلامية للعقل؛ منها:
– العمل على تنمية العقل وتنويره: بتزويده بالعلم الموثّق والمعرفة الصحيحة، ولا أصح من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وللعلم قدرٌ كبير في الإسلام؛ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9)؛ وبحثِّ العقل على التفكير والنظر والتدبر، وشحذه بالتفكير والتفكّر، والنظر والتأمل؛ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)؛ وبدعوةِ العقل إلى ترك ما يُتوصل إليه بالظن والتخمين؛ بتعويده على النظر في الأدلة والبراهين، وعدم اتباع الهوى والشهوات؛ (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (يونس: 36).
– تعويد العقل التفكير العلمي: برفض الخرافة والأسطورة، والشعوذة والسحر والدجل، مما يعطّل عمل العقل ولا يقوم على دليل أو برهان؛ لأن هذه الأشياء جميعًا من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به؛ (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) (الجن)، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطيّر أو تُطيّر له، أو تكهّن أو تُكهّن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد» (البزّار).
تعويد العقل الأمانة العلمية: بتجرده من كل الأسباب الداعية إلى انحرافه، فيتجرد عن الميل والهوى، وعن الأحكام الجزافية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)، ويتجرد من العجلة والتسرع؛ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف: 35).
– حرية التفكير: فمن سبل تكريم الإسلام للإنسان احترام عقله، بجعله حرًّا في تفكيره وتأمله وتدبره، ورفع القيود عن كل ما يقيده ويمنعه من الوصول إلى الحق من خلال الأدلة والبراهين؛ فدعا الإسلام إلى الاجتهاد، وهو بذل الجهد العقلي للوصول إلى حكم، وبهذا الاجتهاد يستطيع المسلم مواجهة التغيرات الواقعة حوله، فيقبلها أو يرفضها بناء على حرية التفكير التي مُنحها.. وكما كفل الإسلام للعقل حرية التفكير فقد منعه التقليد، فالأصل هو الاعتماد على الدليل، وأتاح له النقد والاعتراض، وإبداء وجهة نظره، وأن يناقش ويحاور ويجادل بالتي هي أحسن، بما لا يعطل وظائف هذا العقل، وهو بالأساس مناط التكليف.
سياسات تربية الإسلام للعقل
وهناك خطوط رئيسة وسياسات عامة لتربية العقل في الإسلام، وهي من ثوابت هذه التربية، والخروج عنها لا يساعد على تحقيق الأهداف السابق ذكرها، وهي تتمثل في:
– احترام العقل وتقديره: بإسناد التبصّر والتفكّر والتذكّر إليه، والعلم والتدبر والتفقّه؛ (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة)، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190)، وهو مقصود ضروري من مقاصد الشريعة، فهو ضمن الضروريات الخمس وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال.
– تأكيد مكانة العقل في الحياة: فهو الذي يهدي صاحبه إلى الإيمان بالله، ويخرجه من الكفر والضلال، وهو الذي يحصّل به المعارف والعلوم؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: «بالعقل»، قلت: وفي الآخرة؟ قال: «بالعقل»، قلت: أليس يجزون بأعمالهم؟ قال: «يا عائشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله عز وجل من العقل؟ فبقدر ما أعطاهم الله من العقل عملوا، وبقدر ما عملوا يُجزون» (أخرجه الترمذي).
– فتح باب الشورى أمام العقل: تأكيدًا لمكانته في الحياة الإنسانية؛ ولما للشورى من تأثير إيجابي على الفرد والمجتمع، وهي موضع تَحرُّك العقل للبحث والتأمل؛ ليقبل الأمور أو يرفضها بملء إرادته، وحريته واختياره، وهي كفيلة بالحدّ المناسب للنضج والرقي، وأسلوب أمثل لجعل الحياة الإنسانية ملائمة لتكريم الله تعالى للإنسان.
وسائل تربية الإسلام للعقل
وهذه الوسائل تحقق أهداف التربية الإسلامية، وتتماشى مع سياساتها، غير خارجة عن إطارها العام، وهي كل عملٍ يؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف، في ظل تلك السياسات، ويمكن إجمالها بإيجاز في: تزويد العقل بروافد موثوقة من العلم والمعرفة، وعرض نماذج للتفكير العلمي أمام العقل، وتغذيته بالقيم التي تجعله أمينًا مع نفسه ومع أي موضوع يفكّر فيه، وتدريبه على حرية التفكير، وتنفيره من الجمود والتبعية والتقليد، وتشجيعه على ممارسة النقد البنّاء الذي يقدم البدائل.