يعد دور الأسرة في العملية التعليمية دوراً محورياً لا يمكن إغفاله أو تجاهله أو القفز عليه أو استبداله، كما أن المدرسة لا يمكنها وحدها أن تنهض بالعملية التعليمية، بل لا بد لها من الشراكة مع الأسرة حتى تحقق الأهداف المرجوة والمخرجات التعليمية المنشودة، فالأسرة تمثل البيئة التربوية الحاضنة الأولى في حياة الطفل، كما أن استقرارها يمثل المفتاح الذهبي لسلاسة العملية التربوية برمتها.
تتعدد الأدوار التي تمارسها الأسرة لدعم العملية التعليمية، فمنها ما هو مادي ومنها ما هو نفسي وعاطفي، وكل دور يلبي احتياجات أساسية لا يمكن إغفالها، وبقدر ما تنجح الأسرة في إشباع هذه الاحتياجات؛ تتحقق أهداف العملية التعليمية وتؤتي ثمارها.
يعتبر الاستثمار المادي للأسرة في العملية التعليمية استثماراً شديد الربحية؛ لأنه استثمار في رأس المال البشري، استثمار لتطوير الأبناء عن طريق التعليم ذي الجودة العالية عن طريق انتقاء مدارس أكثر تميزاً ذات إدارة متعاونة ومهارات اتصال عالية وجهد حقيقي في التعليم الأكاديمي وكثافة صفية منخفضة وأنشطة لصقل المهارات الطلابية، ونحو ذلك من السمات التي تميز مؤسسة المدرسة.
الاستثمار المادي للأسرة في العملية التعليمية شديد الربحية لأنه استثمار في رأس المال البشري
هذا الاستثمار يكون بحسب القدرة الفعلية للأسر دون افتعال أو تكلف؛ لأن الضغط المادي المجهد للأسرة لإلحاق الأبناء بمدارس ذات جودة عالية قد يكون على حساب الوقت المتاح لمتابعة الأبناء والحوار معهم والإنصات لهم، وقد يكون هذا الضغط دافعاً للتوتر الذي قد يصل حد العنف الأسري، ومن ثم تكون النتيجة معاكسة تماماً للهدف، وعندها تتحول المدرسة الراقية لإحدى صور الوجاهة الاجتماعية والتفاخر وليس للدعم الحقيقي للأبناء.
ومن صور الدعم المادي المتاحة والممكنة وذات التأثير الحيوي توفير مكان مناسب للتعلم من حيث الإضاءة والهدوء، ووجود مكتبة بسيطة مناسبة للمرحلة العمرية التي يمر بها الأبناء، وتوفير الإنترنت وبعض الألعاب التعليمية.
كما لا يمكننا إغفال تقديم غذاء صحي يحتوي على الاحتياجات الأساسية للنمو خاصة من البروتين والخضراوات والمغذيات الدقيقة، وذلك لدورها الحاسم في دعم النمو العقلي والذاكرة ومهارات التفكير.
الدعم العاطفي
الرفاه العاطفي والصحة النفسية للأبناء ضمانة أكيدة لنجاحهم الأكاديمي، وهو الدور الأساسي الذي تؤديه الأسرة، ويسبق دورها المادي، بل ويغلفه بغلاف الرحمة والحب، وهو الدور الذي لا يمكن للمدرسة أن تقوم به وحدها أبداً مهما امتلكت من اختصاصيين نفسيين أو اجتماعيين.
إن حاجة الأبناء للحب اللامشروط لا يمكن إشباعها إلا في أجواء الأسرة؛ ذلك الحب الذي يعزز الثقة بالنفس ويرفع القدرة على التحمل ومواجهة الضغوط، ويقلل من التوتر والانفعالات الحادة، ومن ثم ينعكس ذلك كله على مستوى التحصيل الأكاديمي، فالابن لن يرهب الامتحانات، ولن يرهب الحديث سواء كان ذلك في اختبار شفهي أو نقاش علمي، عكس متلازمة الفشل التي يعيشها الطالب الذي يفتقد الأجواء الأسرية الآمنة المشبعة بالحب؛ فتهتز ثقته بنفسه ويعاني من الاضطرابات النفسية، وينعكس ذلك كله على تراجع مستواه الأكاديمي.
الرفاه العاطفي والصحة النفسية للأبناء ضمانة أكيدة لنجاحهم الأكاديمي وهو الدور الأهم الذي تؤديه الأسرة
ومن الأمور بالغة الأهمية المرتبطة بالدعم النفسي والعاطفي الابتعاد عن منهج المقارنة شديد الإيذاء، فلكل طفل نوعية ذكاء مختلفة عن الآخر، ولكل طفل قدرات خاصة، ولكل طفل طبيعة شخصية مختلفة، ومن ثم فكل طفل مميز على نحو ما، حتى الأطفال الذين يعانون من صعوبات في التعلم أو صعوبات في القراءة لديهم نقاط مميزة ينبغي البناء عليها ودعمها، ومقارنة تطور الطفل بنفسه لا بباقي أقرانه، ولا بد من الشراكة الكاملة بين الأسرة والمدرسة في اعتماد هذا المنهج، وهنا يقع على الأسرة واجب التواصل مع المدرسة والمعلمين حتى لا يحدث أي صراع أو تناقض في الإستراتيجية المتبعة لتطوير مهارات الطفل.
أيضاً على الأسرة أن تفعّل مهارات الاستماع والتواصل، وأن تكون بيئة مناسبة لإجراء حوارات بلا قيود حتى يمكن للطفل أن يقوم بتفريغ كل ما يشعر به أو يفكر فيه أو يعاني منه بلا خوف أو خشية من الحكم عليه، وهنا على الأسرة التي تتمتع بالذكاء العاطفي، وأن تقلل النقد لأقل حد ممكن؛ حتى لا يلجأ الطفل لحماية نفسه من النقد ببناء حواجز نفسية تمنعه من التواصل والإفضاء، فالتوجيه ينبغي أن يكون بذكاء وبلطف، وتفيد القصص الحقيقية والرمزية كثيراً في هذا الصدد، ويبقى الدعم والتحفيز النفسي الذي تقدمه الأسرة بمثابة الشرارة التي تطلق القدرات الكامنة للأبناء للسعي للتفوق الخلقي والأكاديمي معاً.
إدارة ناجحة
وتأتي أهم أدوار الأسرة في قيادة العملية التعليمية عن طريق الإدارة الحياتية الناجحة للأبناء عن طريق مساعدتهم على حسن إدارة وتنظيم الوقت؛ فهناك وقت للدراسة الأكاديمية، ووقت للترفيه، ووقت للتعلم الذاتي، ووقت لتنمية المهارات، فالأبناء خاصة في مراحلهم العمرية المبكرة بحاجة لمن يساعدهم في وضع قائمة مهام مناسبة، وهم بحاجة أيضاً لمن يتابع تنفيذ هذه القائمة، أو لنقل: إنهم بحاجة للمراقبة الوالدية الذكية، ومن ثم التشارك في تقييم النتائج والمخرجات وتعديل قوائم المهام بحسب هذا التقييم.
الإدارة الأسرية للعملية التعليمية تشمل الغوص مع الأبناء أحياناً في بعض التفاصيل كمتابعة الواجب المنزلي أو المساعدة في الشرح أو التدريب الأكاديمي، وقد تكون إشرافاً عن بُعد ومساعدة للأبناء على استثمار الشبكة العنكبوتية والذكاء الاصطناعي في عملية الشرح والتعلم، مع أهمية تفعيل الرقابة حتى لا يساء استخدام هذه الوسائل، وبدلاً من التعلم والتطور ينتكس الأبناء في مسارات جانبية سلبية.
الأسرة الناجحة تربوياً هي التي تقود أبناءها للنجاح على كافة المسارات دينياً وخلقياً وحياتياً وأكاديمياً
حتى في المراحل العمرية الأكبر يحتاج الأبناء لدعم الأسرة لمساعدتهم على اختيار التخصص الدراسي المطلوب والمناسب لسوق العمل بعيداً عن الضغط المجتمعي أو ضغط الأقران، فكثيراً ما يعاني الأبناء من تشوش الهدف، كما أنهم يفتقرون غالباً للخبرات الحياتية التي تساعدهم على انتقاء مسارهم في التعليم العالي، وهنا يكون دعم ومساعدة الوالدين بالغة الأهمية، بدلاً من إهدار المال والوقت في التجارب الفاشلة، ولكن لا يمكن للوالدين القيام بهذا الدور بشكل مناسب ما لم تكن هناك قاعدة تربوية متينة تحمل في جنباتها الثقة المحملة بمذاق الصداقة، فلا النصائح الجافة تجدي نفعاً مع الأبناء في هذه المرحلة، ولا التعنت في إصدار القرارات نيابة عن الأبناء بدعوى قلة خبرتهم تحقق أي فائدة أو مردود حقيقي في مسيرتهم الأكاديمية أو حتى على طريق نضجهم النفسي.
يمكننا القول: إن الأسرة الناجحة تربوياً هي تلك الأسرة التي تقود أبناءها للنجاح على كافة المسارات؛ دينياً وخلقياً وحياتياً وأكاديمياً، بحسن إدارتها لمواردها المادية والبشرية وصناعة أهداف ذكية ومتابعتها الحثيثة حتى تتحول هذه الأهداف لمخرجات حقيقية ملموسة، فالأسرة الناجحة تعليمياً تحديداً منفتحة للتشارك مع المدرسة، وتثمن أدوات التعلم الحديثة ولا تَرهبها، مع أخذ الحذر الواجب، متوكلة على ربها في سعيها للاستثمار في أبنائها كي يكونوا نموذجاً مشرفاً لأمة تسعى للنهضة من جديد.