يثير الجدل حول الذكاء الاصطناعي تساؤلات خلافية حول ماهيته وأدواره المنتظرة وأضراره المحتملة في كافة المجالات، وإلى أي مدى قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من زلزلة عرش الإنسانية وإزاحة البشر من مركز الكون إلى هامشه، ليتحول الإنسان من القيادة والهيمنة إلى التبعية والاعتمادية المطلقة على الذكاء الاصطناعي الذي سيتولى إدارة شؤون الإنسان والتحكم فيها بطرق آلية خالية من القيمة والمشاعر ومدمرة للإنسانية في بعض التوقعات الأشد قتامة.
لكن الجدل حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسانية بشكل عام قد يطول، خاصة في ظل حداثة الاكتشاف وضبابية المشهد بشأنه، وغياب الدراسات المتأنية والمتعمقة حول حقيقة التوقعات المتفائلة والمتشائمة بمنافع وأضرار الذكاء الاصطناعي وانعكاساتهما على مستقبل البشرية بشكل شامل.
بينما لا تزال الدراسات البحثية المتأنية حول الذكاء الاصطناعي تتلمس خطاها بشأن استكشافه وسبر غوره، فإن تطور مجال الذكاء الاصطناعي قد أطلق الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم، فرغم حداثة القفزة التي أنتجت بعض أشكال الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً، فإنه قد بات الآن في هذه اللحظة متاحاً لأعداد ضخمة من المستخدمين المتطلعين لتحقيق أقصى استفادة وأعلى ربح من ذلك الاكتشاف العلمي غير المسبوق، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من كافة مناحي الحياة وقطاع الأعمال على وجه التحديد؛ ما دفع كثيراً من الباحثين عن عمل إلى تطوير أنفسهم واكتساب الخبرات والقدرات والمهارات اللازمة للتعامل بكفاءة مع الذكاء الاصطناعي، ليصبح مطروحاً بقوة كموضوع وأداة للتعلم في الوقت عينه.
أبرز الأخطار المحدقة للذكاء الاصطناعي تعزيز اللامساواة بين الأمم الأكثر تطوراً والأشد فقراً
وهو ما مكَّن الذكاء الاصطناعي من اقتحام مجال التعليم ليشكل تحدياً للأنظمة التعليمية حول العالم، ويفرض نفسه كمكون لا غنى عنه لأي نظام تعليمي يسعى للتحديث البنيوي من ناحية، وللاستجابة لمتطلبات سوق العمل من ناحية أخرى.
ولا أدل على ذلك مما تشهده الموضوعات والمواد التعليمية التي تستعرض أدوات الذكاء الاصطناعي، وكيفية استخدامها في التعلم، من رواج ضخم على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف بات المعلمون مقبلين على توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، سواء لتسهيل مهمة التعليم، أو لاكتشاف الغش المحتمل من جانب الطلاب الذين أصبحوا أكثر إقبالاً على تعلم استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي وأداء المهام التعليمية.
استكشاف الأخطار
هذا الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي يجب ألا يصرف الأنظار عن استكشاف أخطاره بحذر بالغ، وبينما ترتكز أغلب الانتقادات للأخطار المحتملة للذكاء الاصطناعي على المشكلات التقنية المتعلقة بصعوبات توفير البنية التحتية اللازمة لتشغيله بكفاءة مثل نظام اتصال شبكي عالي السرعة والفعالية، وأجهزة إلكترونية متطورة تدعم أحدث إصدارات الذكاء الاصطناعي، والتخزين السحابي الآمن، ومشكلات الأمن السيبراني والخصوصية وغيرها، فإن الأخطار الحقيقية التي قد يشكلها الذكاء الاصطناعي تنسحب إلى مجالات أكثر إلحاحاً بما يتطلب تسليط الضوء عليها بشكل أكبر.
وتتمثل تلك الأخطار المحدقة للذكاء الاصطناعي في تعزيز اللامساواة بين الأمم الأكثر تطوراً والأشد فقراً، نظراً لحجم الهوة الضخمة والفجوة العميقة فيما بين البلاد المتقدمة تكنولوجياً والتي تمثل أقلية حول العالم بالنسبة إلى أعداد ضخمة من الدول النامية والمتخلفة التي لا تمتلك البنية التحتية ولا الكفاءات البشرية، ناهيك عن انتشار الفقر والأمية والحروب الأهلية؛ بما يعني استخدام الدول المتقدمة لتلك القفزة التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي لخلق أنظمة تعليمية أكثر تطوراً بمراحل عن سائر دول العالم، ويضائل من إمكانية التحاق أبناء تلك الدول الفقيرة والمتخلفة بالأنظمة التعليمية المتقدمة.
الذكاء الاصطناعي يوفر فرصاً قوية تدعم فعالية العملية التعليمية بما يعزز سلاستها وكفاءتها
ولما كان النظام التعليمي هو القناة التي تؤهل الكفاءات لسوق العمل، فإن غياب الذكاء الاصطناعي عن الدول النامية يعني حرمان الأيدي العاملة من الدخول لأسواق العمل المتطورة نتيجة غياب تلك التكنولوجيا عن أنظمتهم التعليمية، وهو ما ينذر بتعميق اللامساواة عالمياً، ويهدد بتكريس التخلف والفقر في الجنوب العالمي.
من ناحية ثانية، فإن الاعتمادية المبالغة على الذكاء الاصطناعي نتيجة الإعجاب الشديد بما يوفره من قدرات يؤدي بمرور الوقت إلى تجفيف منابع الإبداع البشري والتفكير النقدي فيما بين الشباب والناشئة، في ظل انتشار إساءة الاستخدام من جانب عدد كبير من المستخدمين الذين باتوا يعتقدون في إمكان إحلال الذكاء الاصطناعي كلياً محل البشر، واستخدامه لأداء المهام المدرسية والبحثية على سبيل خفض الجهد المبذول في العملية التعليمية؛ وهو ما ينذر بتراجع المستويات التعليمية للأجيال الجديدة نتيجة المبالغة في الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي؛ وهو ما يتطلب صياغة قواعد ومواثيق أخلاقية صارمة تنظم عمل الذكاء الاصطناعي وتوضح استخداماته المتاحة والمشروعة من جانب القائمين على العملية التعليمية.
اقتناص الفرص
وفي مقابل الأخطار المتعلقة بتعميق عدم المساواة بين الأمم واحتمالات إساءة الاستخدام، فإن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصاً قوية تدعم فعالية العملية التعليمية بما يعزز سلاستها وكفاءتها، ويرفع إمكانات الوصول التعليمي لعدد كبير من الفئات الاجتماعية للحصول على فرص أكبر في التعليم وبخاصة أصحاب الهمم.
من ناحية ثانية، يوفر الذكاء الاصطناعي خيارات واسعة أمام المتعلمين عبر صياغة برامج تعليمية مخصصة تلبي الاحتياجات الشخصية لكل طالب على حدة بحسب مستواه، بما يتجاوز واحداً من أهم مساوئ التعليم النظامي الذي يضع مناهج موحدة لكافة الطلاب بغض النظر عن مستواهم وقدراتهم التحصيلية؛ وهو ما يعني رفع كفاءة العملية التعليمية ومخرجاتها بشكل أفضل بكثير بالاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي، كما يدعم توظيف الذكاء الاصطناعي المعلمين عبر مجموعة واسعة من الأدوات التي تدعم المعلمين في توصيل المعلومات وتحقيق تفاعل أكبر مع الطلاب.
الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى وضع مواثيق أخلاقية متفق عليها دولياً لضمان عدم إساءة الاستخدام
وبغض النظر عن الأخطار والفرص المذكورة آنفاً، فإن الذكاء الاصطناعي برغم ما يمثله من خطر كبير على مجالات عملية واقتصادية عدة، فإن المجال التعليمي على الأخص قد لا يكون من المجالات المُعرضة لأخطار الذكاء الاصطناعي، نظراً لما يمثله العنصر البشري من أولوية فائقة في هذا المجال، فالمعلم بما يقوم به من أدوار تفاعلية ومهام تربوية وإنسانية مع طلابه غير قابل الاستبدال من جانب «رجل آلي» خالٍ من المشاعر وعاجز عن التواصل الإنساني، وجل ما يمكن أن يحدثه الذكاء الاصطناعي من أضرار على المستوى التعليمي هو إفساد العملية التعليمية بنشر ممارسات الغش والنسخ، وهي ممارسات يمكن تقويضها بصياغة أنظمة تعليمية صارمة.
وأخيراً، فإن الذكاء الاصطناعي مثل كافة الاكتشافات العلمية الحديثة يحتاج إلى تنظيم فائق عبر قواعد ومواثيق أخلاقية متفق عليها دولياً لضمان عدم إساءة الاستخدام، كما يستدعي بذل جهد فعال من جانب المنظمات الحقوقية الدولية لضمان استفادة كافة الدول منه بالقدر نفسه للحيلولة دون تعميق غياب العدالة بما قد يهدد الأمن والسلم الدوليين، ويقوض تكافؤ الفرص بين الأجيال الجديدة حول العالم.