قال ابن إسحاق: لما خَرَجَ الرسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَهُ إلى غَزْوةِ «بدْرٍ»، ونزلوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنْ الْوَادِي، قَالَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ (نطمس ونفسد) مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ»(1)،
في هذا الموقف دلالة على الأهمية السياسية للشورى، وقد اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى في إدارة شؤون دولته، فكان كثيراً ما ينادي الناس قائلاً: «أشيروا عليَّ»، وتتبين أهمية الشورى السياسية فيما يأتي:
أولاً: إيجاد حلول لمواجهة الأخطار:
تستعين القيادة الحكيمة بمبدأ الشورى في البحث عن سبل مواجهة الأخطار، من خلال الإفادة من تجارب الناس وخبراتهم، فحين يقوم كل فرد أو مؤسسة بعرض رأيه النابع من خبرته ورؤيته؛ فإن هذه الآراء المتنوعة تفتح الآفاق أمام الوسائل المتعددة لحل المشكلات ومواجهة الأخطار،
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما حدث في غزوة «الأحزاب»، ففي السنة الخامسة للهجرة تجمعت الأحزاب للقضاء على الإسلام وأهله في المدينة المنورة، وحشدوا لذلك 10 آلاف مقاتل، وهنا سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى، اتفقوا على قرار قدمه الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، حيث قال: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة(2).
ثانياً: الوصول إلى الصواب:
قيل للأحنف بن قيس: بأي شيء يكثر صوابك ويقل خطؤك فيما تأتيه من الأمور، وتباشره من الوقائع؟ قال: بالمشورة لذي التجارب ومخض زبدة الآراء(3)، ومن أقوال الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، والمشورة موكل بها التوفيق لصواب الرأي(4)، وروي أن الخليفة هارون الرشيد أحضر رجلا ليولّيه القضاء فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، قال الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قلّ خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فسينضم إليك من تتفقّه به(5).
ثالثاً: الإعانة على القيام بالمهمات:
لا معين أقوى من المشورة، ولا عون أنفع من العقل، فالمشورة تقوي العزم وتمنح النجاح وتوضح الحق وتبسط العذر وتزحزح عن مواقف الندامة، والعقل يهدي صاحبه إلى الأخذ بثمرة المشورة، ومن استشار ذوي الرأي والمعرفة في فعل ما عناه فقبل المشورة منهم واقتدى بآرائهم فيها ولم يعدل عنها وعن قويم نهجها قل أن يخفق مسعاه ويفوت مطلوبه(6)، بل إن فائدة الشورى هنا لا تقف عند حد الإمداد بالرأي المعين فقط، وإنما تسهم في تدريب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة، وتثريه بالتجربة وجودة الرأي والتفكير من خلال ممارسته للشورى(7).
رابعاً: تحقيق المصالح الخاصة والعامة:
أما أثر الشورى في تحقيق المصالح الخاصة، فهي تساعد في الإفادة من تجارب الآخرين عند التعرض للمواقف، وعدم تكرار الأخطاء التي وقع فيها الناس، ومن ثم يستطيع الفرد الذي يستشير الأمناء من الناس أن يصل إلى أصوب القرارات وأبعدها عن الانحراف.
أما أثر الشورى في تحقيق المصالح العامة فيتحقق من خلال طرح القضايا التي تهم الناس على الخبراء والأمناء من أهل التخصص في المجال الذي تنتمي إليه القضية، فهم أعلم الناس بالموضوع وأكثرهم دراسة له وتطبيقاً لجوانبه، وإحاطة بالمشكلات الناتجة عنه، ومن هنا فإنهم يقلبون الآراء ويحصون المصالح والمفاسد المترتبة عليه، حتى يتوصلوا إلى أقرب الآراء التي تحقق المصلحة العامة.
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك مشاورة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحابه في قسمة أرض السواد، فعندما فُتح العراق للمسلمين، وهي أرض كبيرة وعظيمة، طلب قادة الجيش وعامتهم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يقسم بينهم الأراضي المفتوحة، والمعروفة باسم «سواد العراق» باعتبار أن الغنائم للفاتحين، غير أن عمر رضي الله عنه بحصافة رأيه، وبُعد نظره، وجد المصلحة في عدم تقسيم هذه الأرض، والإبقاء عليها بيد أصحابها ليتمكنوا من استثمارها، ودفع ما عليها للمسلمين، ليكون بذلك مدداً مادياً مستمراً، فقام رضي الله عنه بتشكيل لجنة من كبار الأنصار لدراسة الأمر، ثم قررت اللجنة بالإجماع تأييد رأيه الذي حظي بموافقة الصحابة رضي الله عنهم(8).
خامساً: الكشف عن الكفاءات وتوظيف المواهب والطاقات:
تسهم الشورى في معرفة طباع الرجال، فمتى طلبت اختبار رجل فشاوره في أمرٍ من الأمور، يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره(9)، فالشورى خير وسيلة للكشف عن الكفاءات والقدرات، وتحقيق الأفراد لذاتياتهم، وما أوتوا من مواهب وملكات؛ كي تستفيد الدولة والأمة من كافة طاقات أبنائها، ولا سيما في شؤون الحكم والسياسة(10).
سادساً: طريق إلى وحدة الأمة:
تسهم الشورى في جمع الناس على كلمة واحدة، إذا أحسنوا تفعيلها والالتزام بها، كما أنها تغرس الألفة والود بين الناس، بل إن الشورى تعد من أهم الطرق إلى وحدة الأمة الإسلامية، ووحدة المشاعر الجماعية، من خلال عرض المشكلات العامة، وتبادل الرأي والحوار فيها(11).
سابعاً: ميلاد الثقة بين الحاكم والمحكوم:
إذا عرض للحاكم شيء من الأشياء، وأراد أن يأخذ فيه قراراً، فإنه يمكن له أن يأخذ فيه قراراً فردياً بصفته الحاكم للبلاد والراعي للناس، لكن هذه الطريقة تكرس للفردية والاستبداد، كما أنها قد تؤدي إلى سخط الرعية، خاصة إذا تبين أن القرار كان خاطئاً، أما إذا أشرك الحاكم رعيته فيما يعرض له من أمور؛ فإنه يكون قد عايش معهم الأحداث وفكر معهم فيها، فإن أصابوا؛ فهذا هو المطلوب، وإن أخطؤوا؛ فإنهم جميعاً يتحملون نتيجة الخطأ، ويعذر بعضهم بعضاً.
وفي هذا قال ابن عبد ربه الأندلسي: من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً وعند الخطأ عاذراً، ومن ترك المشورة، فلم يظفر بحاجته صار هدفاً لسهام الملام، ومضغة في أفواه العاذلين(12)، وقال أعرابي: لا مال أوفر من العقل، ولا فقر أعظم من الجهل، ولا ظهر أقوى من المشورة، وقيل: من بدأ بالاستخارة، وثنّى بالاستشارة، فحقيق أن لا يخيب رأيه(13).
ثامناً: الوقاية من استبداد الحكام:
ترك الشورى يؤدي إلى استبداد الحاكم، وانفراده في تقرير مصير الأمة، فتصبح الأمور خاضعة لرأيه، والقرارات نابعة من ذاته، وهي لا شك قاصرة عن إدراك جميع الأمور، لكنه مع فقد الشورى يتعصب ويستبد برأيه، مما يؤدي إلى الوقوع في الأخطاء، ويفقد الأمة كفاءاتٍ كان بإمكانها أن تستفيد منها.
______________________
(1) السيرة النبوية: ابن هشام (1/ 620).
(2) الرحيق المختوم: المباركفوري، ص 277.
(3) العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي، ص 59.
(4) المستطرف في كل فن مستظرف: الأبشيهي، ص 84.
(5) عيون الأخبار: ابن قتيبة (1/ 72).
(6) صيد الأفكار: القاضي المهدي (2/ 38 – 39).
(7) النظام السياسي في الإسلام: د. محمد أبو فارس، ص 86.
(8) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي (1/ 8).
(9) العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي، ص 58.
(10) النظام السياسي في الإسلام: د. محمد أبو فارس، ص 86.
(11) الشورى وأثرها في الديمقراطية: عبدالحميد الأنصاري، ص 6.
(12) العقد الفريد، ص 58.
(13) المستطرف في كل فن مستظرف: الأبشيهي، ص 84.